حرمةُ الأشهُر الحُرم
ورد ذكر الأشهر الحُرم في الذكر الحكيم تنويهاً بها، وتعظيماً لشأنها، وذلك بقول الله جل ذكرُه: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ..﴾. فقد حذرت الآية الكريمة العباد من ظلم أنفسهم في هذه الأشهر الحرم، وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة ومحرم، واحدٌ فردٌ وثلاثة سَرد، وتحريمها كان معهوداً في الجاهلية من بقايا الحنيفية ملة أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فجاء الإسلام فزادها تعظيماً وإكباراً، كما قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ﴾، وقال عز شأنه: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِير...﴾، أي إثمه كبير وعظيم، وهو ما عظّمته السنة المطهرة، كما في خطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع، التي جاء فيها التنويه بتعظيم حرمة الأشهر الحرم.
- الإسلام عظّم الأشهر الحرم ليعظمها العباد فلا يقعون في المعاصي فيها. |
وقد روى البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب بمنى، فقال: «أتدرون أيُّ يوم هذا؟»، قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال:«فإن هذا يومٌ حرام، أفتدرون أي بلد هذا؟» قالوا الله ورسوله أعلم، قال: «بلد حرام، أفتدرون أي شهر هذا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: «شهر حرام، قال: فإن الله حرم عليكم دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا»، ورويا من حديث أبي بكرة ــ نُفيع ابن الحارث ــ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مُضَر، الذي بين جمادى وشعبان».
كل ذلك ليدل على تعظيم الأشهر الحرم، وأن الإسلام لم يزدها إلا تعظيماً، وأن «الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء»، كما رواه الطبري في تفسيره عن قتادة السدوسي، رحمه الله تعالى، تلميذ أنس بن مالك رضي الله عنه.
وقال أيضاً: إن الله اصطفى صفايا من خلقه؛ اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن الناس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظموا ما عظم الله، فإنما تُعَظَّم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل».
والمهم في هذا أن الإسلام عظّم الأشهر الحرم ليعظمها العباد فلا يقعون في المعاصي فيها، ولذلك ذهب الشافعي وأحمد إلى تغليظ دية القتل الخطأ في الأشهر الحرم كتغليظها في الحرم.
وأما فضل الأعمال الصالحة فيها ففيه كلام كثير لأهل العلم بين نادب ومانع، لاختلاف السلف في ذلك؛ فقد روي أن بعض السلف كان يصوم الأشهر الحُرم كلها، منهم ابن عمر والحسن البصري وأبواسحاق السَبِيعي، وقال الثوري: الأشهر الحرم أحب إلي أن أصوم فيها.
وجاء عن ابن عباس: أنه كره أن يصام رجب كلَّه، وعن ابن عمر وابن عباس أنهما كانا يريان أن يفطر منه أياماً، وكرهه أنس أيضاً وسعيد بن جبير، وكره صيام رجب كله يحيى بن سعيد الأنصاري، والإمام أحمد. وقال: يفطر منه يوماً أو يومين، وحكاه عن ابن عمر وابن عباس، وقال الشافعي في القديم: أكره أن يتخذ الرجل صوم شهر يكمله كما يكمل رمضان، واحتج بحديث عائشة: «ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم استكمل شهراً قط إلا رمضان، قال: وكذلك يوماً من بين الأيام، وقال: إنما كرهته أن لا يتأسى رجل جاهل فيظن أن ذلك واجب، وإن فعل فحسن»، كما ذكر كل ذلك ابن رجب الحنبلي في لطائف المعارف، وقال: شهر رجب مفتاح أشهر الخير والبركة، قال أبوبكر الورَّاق البلخي: شهر رجب شهر للزرع، وشعبان شهر السقي للزرع، ورمضان شهر حصاد الزرع.. الخ
فاللهم بارك لنا في رجب وشعبان، وبلغنا رمضان، بعفو منك ولطف يا رحمان.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.