5 دقائق
الحياة الباقية بعد الممات
ما من أحدٍ من الناس إلا وهو يريد أن تطول حياته، فالمؤمن يتمنى ذلك ليعمُر دينه ودنياه، ويزداد طاعةً وإقبالاً على مولاه، وهو ما يحبِّذه الشارع الحكيم كما في الحديث «لا يتمنَّينَّ أحدكم الموت، إما محسناً فلعله يزداد خيراً، وإما مسيئاً فلعله يستعتب»، وقد جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، من خير الناس؟ قال: «من طال عمُره، وحسُن عمله»، والنفس مجبولةٌ فطرةً على حب الحياة وكراهية الموت كما قالت أمُّنا عائشة رضي الله عنها: «كلنا نكره الموت»، غير أن تلك الأمنية وتلك الكراهية لا تغير من الأمر شيئاً؛ فإن الله تعالى قد كتب الموت على الخليقة وقضاه على من سواه سبحانه، فهو حتمٌ على رقاب العباد.
- الحياة الحقيقية هي التي تكون ذاتَ أثرٍ في نفسها بالانتفاع بسماع الحق، والبقاء بالذكر الحسن بعد الانتقال لدار البقاء. |
إلا أن مفهوم الموت والحياة قد يختلف من شخص لآخر، فمن الناس من يعيش حياً وهو في الحقيقة ميت، ومن الناس من يكون ميتاً لكنه حي، كما قال الحكيم:
قد مات قوم وما ماتت مآثرهم * وعاش قوم وهم في الناس أمواتُ
فالموت الحقيقي هو موت القلب والعقل والضمير، كما قال الله تعالى: ﴿أومن كان ميتاً فأحييناه﴾، وقوله جل شأنه: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى﴾، فمثل هؤلاء هم أحياء بأجسادهم لكنهم موتى بعدم الانتفاع بشيء من حياتهم لآخرتهم،
وهو ما عناه الشاعر بقوله:
ليس من مات فاستراح بميْتٍ * إنما الميْت ميِّتُ الأحياء
والحياة الحقيقية هي التي تكون ذاتَ أثرٍ في نفسها بالانتفاع بسماع الحق، والبقاء بالذكر الحسن بعد الانتقال لدار البقاء، كما قال الله تعالى في شأن الشهداء: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ﴾، فهؤلاء أحياء بما تركوا من أثر في حماية الدين والدنيا، وكذا من بقي أثرُه بصالح عمله من علم ينتفع به، أو عملِ خير ينتفع به الناس فيذكر عندهم بالثناء والدعاء، وهذا ما أراده أبو الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بدعوته ربه: ﴿وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ﴾، فأعطاه الله ذلك كما قال سبحانه: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا﴾، فكل البشرية تثني عليه وعلى ذريته، فهذا الذكر يعد حياة ثانية للمرء يعيش بها كأنه حي في جميع الأعصار والأمصار، كما قال شوقي:.... فَالذِكرُ لِلإِنسانِ عُمرٌ ثاني
ومثل هذه الحياة هي في متناول كل إنسان، إن صحبه التوفيق للعمل الصالح فيعيش بها في دار برزخه كما لو كان في حياته.
والذين يعيشون في هذه الحياة الثانية كثيرون من آخرهم الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم، الذي وافته المنية المحتومة، وأبقته آثاره الحميدة الكثيرة حياً، فلا يذكر إلا بلسان الثناء والدعاء والوفاء؛ لمآثره الخيِّرة في الإحسان إلى الناس بحاله وماله، فلم يُسئ لأحد عرفه أو لم يعرفه، وما من سبيل ينفع الناس إلا سلكه، فهو رائد التعليم، وهو رائد الطب، وهو رائد الإصلاح المالي والاقتصادي، وهو رائد العمران، وهو رائد الفروسية، وهو رائد النوادي الرياضية.. وكل ذلك كان مُجَلِّيا فيها لا يشق له غبار.
ولحرصه على بقائه حياً في هذه الحياة جعل من ماله ما يبقي هذه الأعمال ما شاء الله من الأزمان، فأوقف الأوقاف الكثيرة المِدرارة لتسيير تلك الأعمال التي قام بها، ويبقى نفعها، ويبقى أجره وذكره فيها، عملاً بهدي النبي عليه الصلاة والسلام: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»، وفي رواية: «أو عمَلٍ يُنتفع به»، فجمَع كلَّ ذلك من الصدقة الجارية، التي هي عقارات موقوفة لمشاريعه الخيرية ومساجد ومدارس وتعليم بمختلف المراحل، ومستشفيات، وجوائز التميز طبية وعلمية في مختلف أرجاء المعمورة، ومن العلم المنتفع به في سائر التخصصات بما أنشأ من مدارس وجوائز التميز، فضلاً عن الدعاء الصالح له من الولد وغير الولد، فهو بذلك باقٍ في هذه الحياة التي فني عنها الكثير، فما أعظم هذه الحياة التي يعيشها حمدان بن راشد في برزخه يتفيأ فيها ظلال إحسانه - إن شاء الله تعالى - ويجني ثمار الدعوات الصالحة من الناس.
فرحمه الله رحمة واسعة، وأبقى ذكره في الغابرين.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.