5 دقائق
شرف الصائم عند ربه
الصائم له حال حسنة عند ربه لا ينالها غيره، كما ورد في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فإنه لي وأنا أجزي به»، فكل عمل ابن آدم من صلاة وزكاة وحج وبر وإحسان وقراءة قرآن وذكر، وغير ذلك، له عليه جزاء معلوم، قد يعلمه العابد إن هو أخلص فيه، وقبله ربه سبحانه، فإن الله تعالى يجزيه الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وتضاعف هذه الحسنات في رمضان، فتكون الفريضة فيه كسبعين فريضة فيما سواه، والنافلة فيه كالفريضة في غيره.
- الصوم صبر على الطاعة، وصبر على آلام الجوع والعطش وشهوات الناس. |
أما الصوم فله وضع آخر يختلف عن وضع سائر العبادات، فجزاؤه محجوب عن رصد الملائكة الكاتبين، فضلاً عن العابد نفسه؛ لأن هذا الصيام سر بين العبد وربه، فلم يطلع عليه الملائكة الكاتبون، ولم يكتبوه في صحائفهم، وما كان كذلك كان جزاؤه بيده سبحانه، جزاءً يليق بكرمه وجوده وتمننه على عبده، بغير حساب ولا عد عاد، كما قال سبحانه في شأن الصابرين: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
والصوم صبر على الطاعة، وصبر على آلام الجوع والعطش وشهوات الناس، وصبر على الأذى الذي قد يكون من الغير، فهو لا يزيد على قوله: «إني امرؤ صائم»، فلذلك كان جزاء الصائم بغير حساب، ولا عد كاتب، ولا في صفحات الكتاب، وفوق ذلك فإنه سبحانه لا يمكن منه غرماء الصائم، الذين قد يستأثرون بحسناته يوم يكون الجزاء بالحسنات والسيئات، يوم يقوم الوزن بالقسط، فلا تُظلم نفس شيئاً، وإن كان مثقال حبة من خردل، كما قال سبحانه: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.
فإن ذلكم الصائم الذي قد تكون حسناته نفدت في استيفاء الحقوق، أو حمَل سيئاتهم، فإنه يبقى له خبِيئة عمل ينجو به عند ربه، ويفوز بجنته ورضاه، وهو الصيام الذي أضمأه الهواجر، ومنعه شهوات النفس ولذاتها، وهو يراقب ربه سبحانه، فيكون مدخَّراً عند من لا تضيع عنده الودائع، وهو المولى سبحانه القائل: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}. وهناك يكون فرح الصائم بهذا السر الذي استودعه ربه سبحانه، كما قال عليه الصلاة والسلام: «للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه»، فرح بصومه الذي ادخره لنفسه ولم يشاركه فيه غيره، كما قاله المحدثون، رحمهم الله تعالى.
ولا غرابة أن يكون الصوم عند ربنا سبحانه بهذه المثابة، فهو الذي يفرح بصوم الصائمين، حتى ليكون خَلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك، كما أقسم على ذلك الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بقوله: «والذي نفس محمد بيده، لَخلوف فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريح المسك»، هو أطيب عند الله؛ لأنه أثر العبادة، كما كان دم الشهيد لونه لون الدم وريحه ريح المسك.
ولا غرابة أيضاً أن يكون الصائم بهذه المثابة عند ربه، فإنه كان قد تشبه بملائكة الله الكرام، الذين لا يأكلون ولا يشربون ولا يعصون ربهم، ويفعلون ما يؤمرون، ومن تشبه بقوم فهو منهم، فهو ملائكي العبادة بهذا الصيام، فيكون جزاؤه جزاء الملائكة الكرام.
ولا غرابة في ذلك أيضاً، فإن صيامه كان تهذيباً لنفسه وغرائزه، ومرقِّياً له إلى مراتب المتقين، الذين أعد الله لهم جناتٍ ونهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ولا غرابة كذلك أن يكون بهذه المنزلة، فنبينا عليه الصلاة والسلام قد أخبرنا أن: «من صام يوماً في سبيل الله، بعَّد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً»، والمعنى أنه لا يقارب النار ولا يحوم حولها بحال، فإذا كان هذا في صيام النفل فكيف بصيام الفرض!
هذا هو حال الصائم عند من شرّفه بهذه العبادة، ووفقه لها، وأعانه عليها، فهو إكرام من الله لمن أحبه من عباده، وكما قال جل شأنه: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
اللهم اجعلنا لك صائمين، لك قائمين، لك مخبتين، لك منيبين، وتقبل منا يا أرحم الرحمين.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.