5 دقائق
التزكية المكتسبة من شهر رمضان
التزكية الخُلُقية غايةٌ من غايات البعثة النبوية، كما قال ربنا سبحانه في شأن بعثة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، وقال: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾، فقدَّم التزكية التي تعني التطهير من الشرك بالله وعبادة الأوثان، وتعني النماء، أي ينمِّيهم ويكثرهم بطاعة الله، من باب تقديم التخلية على التحلية، والتزكية هي إكساب النفس الزكاة، وهي الطُّهر، وأصل التزكية نفي ما يستقبح قولاً أو فعلاً، وهي للروح والنفس بمنزلة الغذاء للجسم، فكما أن الجسم يموت إذا لم يتغذ، فكذلك الروح إذا لم تتزك بالأخلاق الكريمة، فإنها تكون كالميت الذي لا ينتفع بشيء، كما سمَّى الله تعالى الذين لا ينتفعون بالهدى موتى، فقال سبحانه: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾، ولذلك رتب الله تعالى الفلاح على تزكية النفس، فقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾.
والتزكية تكون كسبيَّةً بما يتحلَّى به المرء من الرياضة الروحية، حتى تصير الأخلاق الزاكية طبعاً ثانياً، وقد تكون وهبيَّة من الله تعالى، كما قال سبحانه: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، وهذه غير مقدور عليها بالإرادة، ولكنها توهب لمن استقام على الطاعة.
ومن التزكية الكسبية ما كان عليه المسلم في شهر رمضان، الذي صام نهاره عما هو حلال في نفسه، ولكنه حَرُم لغرض الصوم، وهي المفطرات الحسية من أكل وشرب ورَفث، وصام عما هو حرام في نفسه دائماً، كقول الزور وغشيان الفجور والكذب والغيبة والنميمة والسباب وفحش القول... ولما كان عليه الصائم من مجاهدة نفسه في التبتل إلى الله تعالى بالقيام والسخاء وفعل الخير، وتلك هي غاية الصوم المعجلة المشار إليها بقوله جل شأنه: ﴿لعلكم تتقون﴾.
ولا ريب أن الصائم صوماً حقيقياً قد تحقق بالتقوى التي أرادها المولى سبحانه، وهي جامع التزكية الأوفى، فما على الصائم إلا أن يحافظ على ما اكتسبه من الفضل والنعمة، ليكون زاكي الخُلق، عالي الهمة في مرضاة الله تعالى، وذلك باستشعار المعاني التي كان عليها حالة صومه، من مراقبة لله، فلا يقع في محظور المخالفة بلسانه ولا أركانه ولا جَنانه، فلسانه تكون عفَّة عن قول ما لا يحل، وأركانه محفوظة من فعل الحرام وانتهاك حِمى الإنسان، وجَنانه سليم على عباد الله تعالى، وعندئذ يكون من الفائزين برضوان الله تعالى، كما قال عليه الصلاة والسلام: «اضمنوا لي ستاً أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم، وكفوا أيديكم»، وفي الصحيح من حديث سهل بن سعد، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من يضمن لي ما بين لَحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة»، ولا يضمن العبد ذلك إلا إذا كان زاكي الأخلاق.
ولهذا كان همُّ السلف الصالح كبيراً في تزكية نفوسهم وأرواحهم بالاستقامة على الطاعة والبعد عن المعصية، مراقبة لجلال الله سبحانه، عملاً بحديث الشيخين: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك»، وهذه هي المراقبة الدائمة التي هي أعلى مراتب الإيمان، وهي الحال التي كان عليها الصائم في شهر رمضان، فالموفق هو الذي يحافظ على الحال الذي كان عليه من الخير، وذلك أحب الأعمال إلى الله تعالى، فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: «أدومُها وإن قلَّ»، وقال: «اكلَفوا من الأعمال ما تطيقون»، كما رواه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها، قال الراوي: وكانت عائشة إذا عملت العمل لزمته.
وقد كان من دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها».
• كان همُّ السلف الصالح كبيراً في تزكية نفوسهم وأرواحهم بالاستقامة على الطاعة والبعد عن المعصية.
كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.