تحري الصدق من الدين والعقل المكين
يُعرَّف الصدق بأنه الخبر المطابق للواقع، ولما كان الخبر يحتمل الصدق والكذب، بخلاف الإنشاء، كان لزاماً على من يتفوَّه به أن يتحرى الواقع ولا يعدل عنه بحال، فإنه فضيلة عظيمة وخلق كريم، ومُروءة فائقة، من تحلَّى به فقد نال أشرف المكارم الخُلُقية، وتبوأ المنزلة العلية بين البشرية، وقد جاءت الشريعة الإسلامية لتجعل هذا الخلق في ذِروة الأخلاق، حيث كان وصفاً للحق جل شأنه، كما قال سبحانه: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّهُ﴾، ووصفاً لرُسله عليهم الصلاة والسلام، كما قال عز شأنه: ﴿وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ﴾، وأمر به جميع عباده، فيقول سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾، أي كونوا معهم وفيهم ومنهم، حتى تنالوا جزاء الصادقين الذي أعده الله لهم ووعدهم به، وهي المغفرة والأجر العظيم، كما قال سبحانه: ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾، وكما قال عز شأنه: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾.
كما جعلته الشريعة الإسلامية من أهم مطالبها من الإنسان أياً كان، ومن المؤمن على وجه الخصوص، لأنه متعبد به بأمر ربه سبحانه، ويرجو ثوابه الذي أعده الله تعالى للصادقين، ويخشى أن يتصف بضده، وهو الكذب الذي يكون جزاؤه وبيلاً، وينافي كمال الإيمان، وهو ما حث عليه المصطفى عليه الصلاة والسلام بمثل قوله: «عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ومايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صِدِّيقاً..».
والمعنى الزموا الصدق الذي يجعلكم أبراراً، وقد أعد الله للأبرار ما لا يخفى من النعيم، كما قال سبحانه: ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾، بل جعل لمتحري الصدق، أي الملازم له غير المفرط فيه لأي سبب، مرتبة الصديقية، وهي المرتبة التي ليس فوقها مرتبة إلا مرتبة النبوة، كل ذلك لأنه كان ملازماً للصدق في أقواله وأفعاله، فلم يعهد منه غير الصدق مع الله ومع الناس في الاعتقاد والفعل والقول.
هذا هو حال الصدق عند الله تعالى الذي أمر به ونهى عن ضده.
أما حال الصادق عند الناس، فإن الصادق بينهم هو الرجل الذي يحل بينهم محل الرأس من الجسد، فهو المستشار، وهو المؤتمن، وهو الرسول، وهو السفير، وهو الثقة عند الصغير والكبير... فإن نزل بين الناس رفعوه، وإن غاب عنهم حفظوه، وإن غاب سألوا عنه، وإن احتاج أعانوه... كل ذلك لأنهم عرفوا منه الصدق الذي نشأ وشبَّ وشاب عليه، فعرفوا له قدره، وكان كالشَّامة بينهم، يشار إليه بالبنان، ويشاد به في كل مكان.
وما من أحد من الناس إلا وهو يود أن ينال شيئاً من هذه الصفات العلية عند رب البرية، وعند البشرية، فضلاً عنها كلها، وهي في الحقيقة بمقدور كل إنسان، إن كانت همته عالية للمعالي، وصحبه توفيق الملك المتعالي، فما على المرء إلا أن يعف عن الكذب ويتحرى الصدق في كل أقواله، جداً وهزلاً، حتى يكون طبعاً ثانياً له، وعندئذ سينال مراده في الدنيا والآخرة، وكما قيل: من لزم الصدق وعود لسانه به وفق، وكما قيل: الصدق منجاة لأربابه... وقربة تدني من الرب سبحانه.
وقيل الصدق عمود الدين، وركن الأدب، وأصل المروءة، فلا تتم هذه الثلاثة إلا به.
وقال زهير:
وفي الحلم إدهانٌ وفي العفوِ دربةٌ/ وفي الصدقِ منجاةٌ من الشرِّ فاصدُقِ
ويقول سيدنا علي رضي الله عنه: علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك.
وقال بعض البلغاء: ليكن مرجعك إلى الحق، ومنزعك إلى الصدق، فالحق أقوى معين، والصدق أفضل قرين، ولكل واحد منها دواعٍ. فدواعي الصدق لازمة، ودواعي الكذب عارضة؛ لأن الصدق يدعو إليه عقل موجب، وشرع مؤكد، والكذب يمنع منه العقل ويصد عنه الشرع، ولذلك قيل: من قلَّ صدقه قلَّ صديقه.
ومعلوم أنه ما من أحد إلا وهو يود من الناس أن يصدقوه؛ ليبني على قولهم الحقائق، ويتوصل بصدقهم إلى مطلوب خبري، فليود كل امرئ للناس ما يوده لنفسه، فيصدق لهم حتى يصدقوا له؛ فإنه
«لا يؤمن أحدكم، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» نسأل الله تعالى أن يجعلنا من الصادقين في الاعتقاد والفعل والقول حتى نلقاه.
• الزموا الصدق الذي يجعلكم أبراراً، وقد أعد الله للأبرار ما لا يخفى من النعيم.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.