٥ دقائق
آفة الكذب
يُعرَّفُ الكذب بأنه الإخبار بخلاف الواقع، ويصنَّف بأنه آفة خُلقية مقيتة، وآفة اجتماعية بغيضة، ويدل على تدنِّي الأخلاق بل يذوِّبها كما يذوبُ الملح في الماء، وكما قال الشاعر:
لا يكذب المرءُ إلا من مهانته/ أو عادة السوء أو من قِلَّة الأدبِ
وهو يفسد العلاقات المجتمعية إن هو انتشر بينهم؛ حيث تنزع المصداقية بين الناس، فلا يثق أحد بأحد، وتضيع المصالح الاجتماعية، وتثور البغضاء والفتن، فهو جِماع كل شر، وأصل كل ذم لسوء عواقبه، وخبث نتائجه؛ فإنه ينتج النميمة، والنميمة تنتج البغضاء، والبغضاء تؤول إلى العداوة، وليس مع العداوة أمن ولا راحة. ولذلك قيل: من قلَّ صدقه قَلَّ صديقُه.
لهذا نجد شرعنا الشريف نهى عنه أيَّما نهي، وحذّر منه أيّما تحذير، ورتب على من اتصف به جزاءً وبيلاً، فربنا سبحانه ذكر الكذب في كتابه العزيز بعشرات الآيات، وبصيغ مختلفة، كلها جاءت ذماً له وتنفيراً منه ولعناً لقائله، ووعيداً لمن كذب في نفسه، أو كذّب بالحق فلم يقبله، كما في قوله جلّ شأنه {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}، أي لا يهديه لرشاد ولا يصلح له حالاً في المعاش والمعاد، وقوله سبحانه {لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}، واللعن معناه الطرد من رحمة الله، وما كان ذلك إلا بسبب تعمّد الكذب الذي يبغضه الله تعالى ويبغض قائله، لأن الكذب يتنافى مع صريح الإيمان، كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم، فإن المؤمن قد يطبع على كل خَلَّة غير الخيانة والكذب، وهو ما يشير إليه قوله سبحانه:{إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، والسبب في ذلك أن الإيمان يحمل صاحبه على الصدق لما يعلمه من محبة الله تعالى للصدق وبغضه سبحانه للكاذبين، فيتحاشى الكذب الذي يسجله عليه ملكاه ويحاسبه الله عليه، فإنه {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}، فكيف يجرؤ مع الإيمان أن يسود صحيفته بما يعلم أنه محاسب عليه؟ وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كذب العبد تباعد الملك عنه ميلاً من نتن ما جاء به، وقد كان الكذب من أبغض الأخلاق لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.
فإذا كان المؤمن كذلك فهو المؤمن الحق، كما روى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبلغ العبد صريح الإيمان حتى يدع المزاح والكذب ويدع المراء وإن كان محقاً».
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاحة والمراء وإن كان صادقاً»، وحتى يجتنب المرء الكذب قليله وكثيره، فإن الناس قد يستسهلون المزح بالكذب ويعدونه من لغو الكلام، والشارع الحكيم عد ذلك كذباً، كما روت أسماء بنت يزيد رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه يعد ذلك كذباً؟ قال إن الكذب يكتب كذباً حتى تكتبَ الكُذيبة كُذيبة».
ولم يرخِص الشرع الشريف في شيء ممّا يقول الناس كذباً إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته وحديث المرأة زوجها، لأن هذه الخصال لا تؤدي إلى مفسدة، بل يتحقق بها نفع كبير، فالقصد منه هو الإصلاح، لا مجرد الإخبار الكاذب.
وشر الكذب وأفحشه ما يكون عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تنشر الأكاذيب في الآفاق، وتوقع مفاسد لا تطاق، وقد تُحدث محناً وتثير فتناً لا تقف عند حد، ولذلك كان عقابها وخيماً كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت الليلة رجلين أتياني، قالا لي الذي رأيتَه يشق شِدقه؛ فكذاب يكذب الكذبة فتحمل عنه حتى تبلغ الآفاق، فيصنع به هكذا إلى يوم القيامة».
ومن الكذب ما يتناقله الناس عن بعضهم، وهم لا يشعرون أنه كذب، وذلك لا يعفيهم من وصمة الكذب لعدم تحرّيهم، وقد صح: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع».
فعلى المرء أن يكف عن الكذب، بل عن كل ما يُريبه كما قال عليه الصلاة والسلام: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الكذب ريبة والصدق طمأنينة».
• ربّنا سبحانه ذكر الكذب في كتابه العزيز بعشرات الآيات، وبصيغ مختلفة، كلها جاءت ذماً له وتنفيراً منه ولعناً لقائله.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»