الهجرة الحاضرة
الهجرة النبوية التي حلت مناسبتها الثالثة والأربعين بعد الأربعمائة والألف هي مفتاح الهجرات الذاتية لكل مسلم، والتي يجب أن تُقتبس من صاحب الهجرة الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فإن هجرته عليه الصلاة والسلام كانت تشريعاً لهجرة الأرض الظالم أهلها، وتشريعاً لهجرة التواكل والتسويف، وتشريعاً لهجرة السوء والفحشاء، وتشريعاً لهجرة محاب الدنيا إلى محاب الآخرة، وما يحبه الله ورسوله.
فقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مكة، وعند البيت الحرام والكعبة التي بناها أبوه إبراهيم عليه السلام، وكانت بعثته عليه الصلاة والسلام استجابة لدعوة أبيه إبراهيم، حيث قال: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، وما كان لهذا البلد الأمين أن يفرط بهذه المنحة الإلهية لو أنه كان دار إيمان، كما كان في عهد إبراهيم، لكنه تدنس بالوثنية البغيضة حتى أصبحت الكعبة المشرفة محاطةً بمئات الأصنام التي تُعبد من دون الله، دون أن يقدر أحد على تغييرها؛ لغلبة الكفر والطغيان، ولا تقدر عليه إلا قوةٌ جبارة تجتث أصول الوثنية، وتقيم الديانة الحنيفية، ومفتاح ذلك أن تطلب هذه القوة ممّن أهَّلهم الله تعالى لها، لا من أُشربت قلوبهم الوثنية، كما أشربت اليهود عجل السامري، فعبدته من دون الله، ومفتاح هذه القوة هو الهجرة إلى قوم أولي بأس شديد، وهم أهل يثرب، حتى يتهيؤوا لفتح مكة عنوة، ويزيلوا منكرات الوثنية، ولئن كانت مكة أحبَّ البلاد إلى الله تعالى، وأحبَّ البلاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إلا أن ترك المحبوب لما هو أحبُّ لله تعالى من أوجب الواجبات، وذلك ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام؛ ليشرع لنا هذا المعنى العظيم من معاني الإيمان، ولولا إرادة هذا المعنى لقذف في قلوب أهل مكة الإيمان، وظلت أعناقهم للنبي عليه الصلاة والسلام خاضعة، فإنه سبحانه هو الهادي المضل: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا﴾.
وكان تشريع الهجرة مقروناً بتشريع الأخذ بالأسباب العادية التي أقام الحق سبحانه الكون عليها، فاتخذ الرفيق والدليل والزاد والراحلة، وأخذ بأسباب التعمية، مع أنه عليه الصلاة والسلام كان يركب البراق في الإسراء، ويزوّد بطاقة ملائكية في المعراج الذي اجتاز فيه السماوات العلى، ووصل إلى سدرة المنتهى، وما كان هذا ببعيد عنه لو كان القصد هو حماية النبي عليه الصلاة والسلام من الأذى، ولكن المراد هو تشريع الأخذ بأسباب الحياة الاعتيادية التي اعتادها البشر، حتى يعلم أعداء رسالته أنه مؤيد من عند الله بخرق العادات التي يعجز عنها البشر بذواتهم الخالية من التأييد الإلهي، وحتى تعلم أمته أنه مع إيمانها بربها سبحانه، وأنه الضار النافع، المحيي المميت، المعطي المانع، وأن كل ما يجري في الكون هو بتقديره وتدبيره؛ فإن عليها أن تسعى لما فيه نفعها بنفسها، حتى يكون السعي من كسبها، وبه تحمد وتؤجر وتشكر.
كما كانت الهجرة المباركة تشريعاً لهجرة أهل السوء والفحشاء الذين يؤذون الله بنسبة الشريك إليه، ويؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يدعوهم لما يرضي الله تعالى، وما ينجيهم من عذابه، ويؤذون المؤمنين والمؤمنات لا لذنب إلا لأنهم يؤمنون بالله العزيز الحميد، فهجرة من عَموا عن الحق، وضلوا سواء السبيل متعينة ليحيق بهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، كما أرشد إلى ذلك الذكر الحكيم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾.
وكانت الهجرة تشريعاً لهجرة المعاصي والسيئات التي يبغضها الله ورسوله، إلى فعل ما يحبه الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا من أوجب الواجبات على المسلم، وهي الهجرة التي حث عليها النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه».
وبهذا نعلم أن الهجرة ليست مجرد عدد السنين والحساب، بل هي أحكام شرعية، وأخلاق مَرْضِيّة، وسيرة نبوية، والاقتفاء بها من واجبات الإيمان.
فنسأل الله تعالى أن يعيد علينا مواسم الهجرة أعواماً عديدة، وأزمنة مديدة، مع العفو والعافية، وقد رفع الله الوباء، وأنعم بالعافية.
• كان تشريع الهجرة مقروناً بتشريع الأخذ بالأسباب العادية.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»