وجع الاقتراب
تماماً كوجع البعد، الاقتراب الشديد أيضاً موجع، حتى ولو بدافع الحب أو الخوف أو الحماية.. فلا ضير أبداً من مسافة في أي علاقة مهما كان عمقها.
أدْوَم العلاقات عُمراً أكثرها اعتدالاً، لكننا لا ندرك ذلك إلا بعد أن يجهدنا الصدّ من أخ يرفض حماية، أو زوج يدافع عن حريته المطلقة، أو ابن يفتح ذراعيه للحياة بلا قيد، أوصديق لا يريد أن يخبرنا كامل قصته.
نظن أننا قادرون على الاستمرار بالمشاعر ذاتها على الدوام، حتى تفاجئنا الطيور بأن أجنحتها قويت وأصبح بوسعها الانطلاق لأرض أخرى، ومحبين آخرين يشاركوننا فيهم، بعد أن عشنا دهراً نعتقد أنهم ملكنا وحدنا.
تأبى الكبرياء والموروث والنشأة إلا الالتصاق والتوحد مع أحبتنا، وإلا فلا حب ولا اهتمام من وجهة نظرنا، حتى يوقظنا وجع الرفض.
ننسى أحياناً أنفسنا لأجل الآخرين، حتى يصبح القرب عبئاً يومياً يمرضنا وينغص أيامنا، من دون أن نشعر أننا السبب حين لا نعترف بالخصوصية، حتى لو كنا عائلة، أو أن الوقت غير مناسب للحديث طالما أننا أصدقاء.
تعترينا أوقات نكره فيها الحياة وننكفئ على أنفسنا، ونرغب في العزلة عن الجميع، فلماذا ننكر على غيرنا عدم رغبته فينا حين يمرّ بمثل هذه الأوقات، فكل ذلك وأكثر من المشاعر السلبية يمكن أن يمرّ بها ابن أو زوج أو أخ أو صديق، هنا لابد أن نتعلم كيف ندعم فقط دونما اقتراب شديد، أو ضغط بكثرة السؤال، طالما أن الطرف الآخر لا يريد.
تفرض علينا الحياة أحياناً ما لا يصادف هوى قلوبنا، لكن لابد من إقناع أنفسنا بأنه لا حال تدوم، وأن التغيير سنة كونية للاستمرار.
نعم، قد يكون ذلك مؤلماً ضمن دوائر علاقتنا الضيقة، لكن هكذا النفس البشرية وتعقيداتها، تجبرنا أحياناً على الابتعاد عمن نحب بينما نعتقد أنهم في أمسّ الحاجة إلينا.
وجع الاقتراب أشد وطأة من وجع البعاد، فهو كظلنا لا خلاص منه، ولا قبول به أو تعايش معه إلا بتفهم احتياجات من حولنا، واحترام مساحتهم الخاصة ومشاعرهم السلبية، وأوقات أحزانهم التي يحتاجون فيها فقط إلى أنفسهم.
احتفظوا بمسافة لأنفسكم مهما كان الحب، مسافة تحميكم وجع الاقتراب، وتترك مساحة للآخر يمارس حريته ويلملم شتات نفسه، وفي الوقت ذاته يرى فيها جوهركم ويعرف قدركم.
@amalalmenshawi