5 دقائق
وُلد الهدى
ما أبدع شوقي حين قال في هُمَزِيِّته:
وُلِـدَ الـهُـدى فَـالكائِناتُ ضِياءُ وَفَـمُ الـزَمـانِ تَـبَـسُّـمٌ وَثَناءُ
إلى أن يقول:
يومٌ يَـتـيهُ عَلى الزَمانِ صَباحُهُ وَمَـسـاؤُهُ بِـمُـحَـمَّـدٍ وَضّاءُ!!
نعم إنها ولادة هدى، لينشأ هذا الهدى في أوساط الضلال المبين حتى يزاحمه ويزيله، وأنّى لهذا الضلال الوثني أن يُجتث من فوق الأرض إلا بولادة يُعرف نسبها وكرم محْتَدِها، حتى لا يتكبرَّ أهل الضلال إن جاء من غير قريتهم وناديهم، وكما هي سنة الله في رسله، فقد قال سبحانه: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾، فهذا الهدى والهادي جاء من أنفسهم، من سؤدد مضر، وغُرة كِنانة، كما قال الوزير الأندلسي أبو عبدالله ابن أبي الخصال (ت 465 ه) عن جده عبدالمطلب:
ومن ذا له جدٌ كشيبةَ ذي الندى* وساقي الحجيج بين شرق ومغرب؟!
له سؤدد البطحاء غير مدافُعٍ * وحومة ما بين الصفا والمُحَصَّب
وكانت ولادته مقترنة بآيات لم تعهد البشرية مثلها، فقد أضاءت الكائنات بذلكم النور الذي رؤي منه قصور الشام، وحرست السماء حراسة شديدة من استراق السمع، فرميت الجن بالشهب الثاقبة، وذلك كله إيذاناً بأن لهذا المولود شأناً أيُّ شأن، فما أبلغ قول شوقي الذي لم يُسبق لمثله: وفم الزمان تبسُّمٌ وضياءُ، ففي هذا التشبيه البليغ على أن الزمان تبسم ثغره فرحاً وطرباً بهذا المولود، لا جرم أن الزمان يسعد بمن يعيد إليه طهره ونقاءه، من توحيد الله والتبرؤ من الوثنية، فحُق لهذا الزمان أن يتيه طرباً بهذا المولود المبارك الذي سيحيي الله به الأرض بعد موتها، وهو ما عبّر عنه شوقي بقوله: يوم يتيه على الزمان صباحُه.. الخ.
نعم إنه تِيهُ الفخَار، حيث كان الزمان ملبداً بالوثنية الجاهلية، فاسود من معاصي الله تعالى، فكيف لا يتيه طرباً بالنور الذي يذهب السواد الكالح؟!
وليتأمل المسلم عظيم بركة هذا المولود وهو حمل في بطن أمه، فقد كان سبباً لأن يحمي الله تعالى مكة وأهلها وبطونها المختلفة من جيش السَّفاح أبرهة الحبشي الذي أغار على مكة بجيشه الجرار، وأفياله الكبار، ليبيد خضراء مكة، ويجعل أعزة أهلها أذلة، فحماها العليم الخبير سبحانه، لأن من اختاره الله لرسالته قد تكوَّن وآن وقت ظهوره، فلو أن معرَّة الجيش استباحت مكة لربما ذهب مع من يذهب، أو لربما نفر أهل مكة من مكة، وقد شاء الله تعالى أن لا يوجد إلا في هذا الوادي غير ذي الزرع، كما دعا إبراهيم عليه السلام، فأهلك الله تعالى هذا الغازي الآثم وجيشه العرمرم، كما أخبرنا سبحانه وتعالى في سورة الفيل، ولولا وجود هذا المولود عليه السلام حين ولد وحين يموت وحين يبعث حياً؛ لجرت سنة الملوك الغالبة فيما يستبيحون من قرى ومدن، فكم قد غزيت مكة قبل تكوينه عليه الصلاة والسلام، فضلاً عن عصور الإسلام، ففُعِل فيها الأفاعيل، وانتهكت حرمات الله تعالى، جرياً على سنة الله تعالى في خلقه من التغالب والتدافع، ومع ذلك لم يعاجل الله تعالى المنتهكين بالعقوبة، كما عاجل بها أبرهة الحبشي الصليبي، وهذا ما يشير إليه الحق سبحانه بقوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾، وظرفية «فيهم» بدأت من يوم تكوَّنَ جنيناً في بطن أمه آمنة من أبيه عبدالله بن عبدالمطلب عليهم السلام، وهما ممن لم تبلغهم الدعوة، حيث اختارهما الله تعالى قبل البعثة.
إن ذكرى ولادة النبي عليه الصلاة والسلام عظيمة، ليست كسائر الذكريات، إنها ولادة أمة، وولادة شريعة، وولادة نور مبين، كما يشير إلى ذلك قول الحق سبحانه: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾، والمجيء الحسي بالولادة كان قبل المجيء المعنوي بالرسالة وما حملته من الكتاب المبين، الذي يهدي للتي هي أقوم في الديانة والأخلاق والمعاملات المادية والاجتماعية، لذلك نرى الأمة الإسلامية جمعاء ترى في مناسبة ذكراه معاني عظيمة، فتتذكر نعمة الله تعالى عليها أن أنقذها بهذا المولود الكريم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم، فيحيون هذه الذكرى بقراءة سيرته من نشأته إلى بعثته ووفاته، وذكر أخلاقه، وكل ذلك مما ينبغي معرفته عن هذا النبي الكريم لكل مسلم.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.