5 دقائق
نهر الشارقة العذب
ما بين الأنهار والحضارات علاقة تاريخية وثيقة، فعلى ضفافها بنت الأمم أول مجتمعاتها، ومن مائها العذب خرجت الزراعة المستدامة ورويت الكائنات وبعثت الحياة في الحقول والسهول، لتظهر التجارة وتبنى المراكب لنقل وتبادل السلع بين المجتمعات، لهذا يطلق على الثقافات والحضارات البدئية التي نمت على الضفاف اليانعة، حضارة الأنهر وثقافة الأنهر، مثل حضارة بلاد ما بين النهرين، وحضارة النيل في مصر، وحضارة النهر الأصفر في الصين والجانج في الهند.
في إمارة الشارقة نهر عذب سخي، إنه نهر غير تقليدي، يختلف في توصيفه عن تلك الأنهر التي عرفناها في دروس الجغرافيا، وقصدناها زائرين للتمتع بجمالها، لكنه يتطابق تماماً معها في الأثر والأهمية، وفي الدور التنموي والحضاري، وهو معرض الشارقة الدولي للكتاب الذي يُعد نهر المعرفة الرئيس للإمارة، وواحداً من أبرز وأهم ثلاثة معارض كتب على مستوى العالم.
وحتى نكون أكثر دقة في التحليل، لابد من القول إن نهر الشارقة يتفوق على الأنهار الطبيعية في عمق واستدامة التأثير، فهو لا يروي الحياة البيولوجية فقط، بل يسهم بشكل مباشر في تشكل الهوية الفردية والجماعية ويمنحها أسباب رفعتها وسموها، ويعزز المشترك الفكري والعاطفي الذي على أساسهما تقوم المجتمعات الإنسانية، إلى جانب دوره الآخر المتمثل في إنعاش وبث الحياة في المنظومة الاقتصادية التنموية سواء من خلال تنشيط الحراك الاقتصادي العام، أو تعزيز القيمة المعرفية لرأس المال البشري.
وكما لكل نهر منابع وأصول وأسباب قوة وعوامل استمرارية، فإن نبع معرض الشارقة الدولي للكتاب وأسباب قوته واستمراريته، رؤية ورعاية صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة. إيمان سموه بقوة الثقافة في هندسة الوجدان العميق للأفراد والمجتمعات، منح مشاريعنا الثقافية عامةً، ومعرض الشارقة الدولي للكتاب بشكل خاص، كل الأسباب للاستمرار ومراكمة المنجزات، حتى أصبحت الشارقة واحداً من أهم المراكز الثقافية العالمية، وارتبط اسمها بنظريات التنمية المستندة للثقافة والاستثمار في المعارف والمهارات البشرية.
أوجه الشبه بين معرض الشارقة الدولي للكتاب، والأنهار لا تنتهي، وقد تحتاج إلى كتب عدة لتبيانها وتحليلها وتحديد نتائجها، لكنّ هناك جانبين أساسيين في هذا التشابه، من الضروري إضافتهما على ما ذكرناه سابقاً في هذه المقالة، وهما الأصالة والتراكمية، فمشروع الشارقة الثقافي الذي بدأ بالمعرض لتتفرع منه جداول عذبة متعددة التخصصات، هو تجربة أصيلة وخاصة جداً بالشارقة، لا تنفصل ولا تبتعد ولو قليلاً عن طموح مجتمع الإمارة وسماته، وعلى الرغم من كونها منفتحة على تجارب العالم وتستفيد منها، إلا أنها في العمق والجوهر تجربة لها فرادتها وشخصيتها المستقلة، نتجت عن تفاعل المجتمع مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تشكلت عبر مسيرة عقودٍ طويلة، وسنظل نفخر بهذه الأصالة في كل مرة نرى تجربة عربية أو عالمية تنمو وتتشكل بتأثير من نموذجنا الخاص.
الجانب الآخر، وهو الفعل التراكمي لمعرض الشارقة الدولي للكتاب، وهنا علينا التأكيد أن المشاريع الثقافية الكبرى لا تظهر من الفراغ، ونتائجها لا تتحقق بين يوم وليلة، بل تفعل ما يفعله النهر، يبث ماءه للأرض عبر السنين، فتزداد خصباً لتنمو البذور وتصبح أشجاراً، ثم تطرح ثمراً يجذب الناس لترسي قواعد حضارتها على ضفافه.
سيستمر نهر الشارقة العذب في الجريان، لقد حفر مكانته ومجراه عميقاً في وجدان المنطقة وذاكرتها، وأصبح عنواناً للثقافة العربية ورمزاً لقدرتها على الحضور المؤثر في ثقافات العالم، ذلك الحضور الندي الذي يضيف قبل أن يأخذ، ويؤثر قبل أن يتأثر، يصنع الدهشة لدى كل من يشاهده ويتابعه، ويذكر العالم بتاريخ مفعم بالفخر، كنا فيه سادة العلوم والفنون واللغة والأدب، ويروي حكاية مستقبل يؤسس له الآن، وتروى جذوره بمياه نهر الشارقة العذب.
رئيس هيئة الشارقة للكتاب
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.