فقه الوصايا
الوصايا جمع وصية، وهي التصرف بالمال بعد الموت، وهي من المسائل الشرعية التي أولاها القرآن الكريم عنايته البالغة، حيث جعلها في مقدمة الحقوق المتعلقة بذمة الميت، وقرنها بآيات المواريث مقدمة على كل حق متعلق بالتركة، فيقول ربنا سبحانه بعد بيان أصحاب الفروض والعصبات من البنين والبنات والآباء والأمهات ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، ويقول بعد بيان حق الزوج من زوجته: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، ويقول بعد بيان حق الزوجة من زوجها: ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، وقال سبحانه بعد بيان حق الإخوة والأخوات ممن مات كلالةً ﴿مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾، وقدمها في الذِّكر على الدَّين، مع أن الدَّين يقدم في الإخراج باتفاق الفقهاء، تنويهاً بشأنها حتى لا يهملها الورثة لضعف حجة الموصَى لهم، كونه إحساناً من قبل الموصي؛ بخلاف الدَّين فإن لصاحب الحق مقالاً فلن يترك حقه، وقد ترك الميت ميراثاً؛ كل ذلك لئلا يُهمل الورثة ما أراده المرء لنفسه من إعطاء شيء من تركته لأقاربه، كما ندبه الله تعالى لذلك بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾.
وقد كانت هذه الوصية مفروضة في بادئ الأمر، قبل فرض الفرائض لمستحقيها في آيات المواريث (10-12) من سورة النساء، وآية الكلالة في آخرها، ولما فرضت المواريث نسخ حكم الوجوب، كما روى أبو دواد والدارمي وغيرهما من حديث أبي أمامة، رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»، وبقي أمرها مندوباً لغير الوارث، لاسيما من الأقارب الذين كان يعولهم أو يعينهم، أو لغيرهم من الأباعد أو وجوه الخير المختلفة، كما روى ابن ماجة وغيره من حديث أبي هريرة، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله تصدق عليكم، عند وفاتكم، بثلث أموالكم، زيادة لكم في أعمالكم»، فلعل المرء كان في حياته مقصراً في الصدقات، وفعل الخيرات خوفاً على نفسه من العَيْلة، فإذا دنا أجلُه وبدأ يأسه من الحياة، أعطي فرصة لزيادة حسناته، بمثل هذه الوصية التي هي صدقة، يكون في ظلها يوم القيامة، كما قال، عليه الصلاة والسلام: «كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس»، وأقارب المرء وأرحامه غير الوارثين أولى الناس بمثل هذه الوصايا؛ فإنها تكون صدقة وصلة رحم، ولعلهم كانوا يعيشون في كَنَفه، فإذا مات فلعلهم لا يجدون من يواسيهم، فيحرص المرء على أن يواسيهم بعد وفاته، كما كان في حياته، فهم منه وإليه، فيكون ذلك مما يتبعه بعد موته من العمل الذي دل عليه حديث «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو عمل ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
وهذا ما كان يحرص عليه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى همَّ سعد بن أبي وقاص، رضي الله عنه، أن يوصي عند مرضه بكل ماله غير أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يأذن له إلا بالثلث، وقال: «الثلث، والثلث كثير أو كبير»، قال: فأوصى الناس بالثلث، وجاز ذلك لهم.
فتأمل قوله: «فأوصى الناس بالثلث»، أي عملوا به، وهكذا ينبغي أن يعمل الناس في كل زمان ومكان تقرباً إلى الله تعالى، ولا يتركوا هذه الوصية.
ولو أن الأجداد والجدات فعلوا ذلك لأحفادهم وأسباطهم بنحو الثلث، أو بنحو نصيب الولد أو البنت، لو كان موجوداً بما لا يزيد على الثلث؛ لخرجوا من إشكالية الوصية الواجبة التي تؤخذ بحكم القانون، وقد لا يثابون عليها إن لم تطب أنفسهم بذلك.
هذا كله في الوصية المندوبة، أما الوصية الواجبة شرعاً، فهي التي تكون بالحقوق المتعلقة بالمرء له أو عليه، فإن النبي، عليه الصلاة والسلام، قد شدد على أمرها فقال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده»، ذلك لأنه إذا لم يوصِ بذلك، وليس هناك ما يدل عليها من شهادة أو توثيق، فستضيع حقوقه لدى الناس، أو حقوق الناس عليه، ولعله إن كان مديوناً، فسيبقى محبوساً ومرتهَناً بدينه، بينما ورثته يتمتعون بما تركه لهم ولعلهم لا يشعرون.
• هكذا ينبغي أن يعمل الناس في كل زمان ومكان، تقرباً إلى الله تعالى، ولا يتركوا هذه الوصية.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.