5 دقائق
روح الصلاة
لكل عمل يعمله ابن آدم ذات وروح، عبادة كانت أم معاملة، فالعبادات لها ذات تتشكل منه، ولها روح يُصدِّق تلكم الذات أو يكذبها، فذات الصيام الامتناع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات الحسية، وروحه مراقبة الله تعالى فلا يقع في محظور، بل ولا مكروه، وذات الزكاة إعطاء المستحق تلكم النسبة الواجبة عليه، وروحها ابتغاء وجه الله تعالى بلا رياء ولا سمعة ولا مِنّة، والحج وطلب العلم والوعظ والإرشاد كذلك، وكل هذه العبادات إذا لم يكن الروح حاضراً فيها، فإنها تكون عبادة غير كاملة، وقد لا يقبلها الله تعالى، وإن أسقطت خطاب التكليف.
والصلاة مثل ذلك لها ذات، وهي أداء الأركان من قيام وقراءة وركوع وسجود.. إلخ، ولها روح هو حقيقة الصلاة وجوهرها، إنه الخشوع لله رب العالمين، لذلك كانت عناية القرآن الكريم به كبيرة، فنجد أن الذكر الحكيم علَّق الفلاح به فقال ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ...﴾، فجعله أول صفات أهل الإيمان، وحينما أمرنا بأداء الصلاة، أمرَ تكليفٍ، إنما أمر بها مقرونة بالإقامة، فقال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ ثماني مرات، وحينما أثنى على المصلين، إنما أثنى عليهم لإقامتهم الصلاة، فقال: ﴿وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ ثماني مرات كذلك، وهكذا في كل تصريفات فعل الإقامة كـ«يقيمون وأقمْ وأقامَ»، نحو خمسين مرة، ولم يقل قط أدُّوا الصلاة أو يؤدون الصلاة؛ لأن الأداء هو الأفعال الظاهرية التي هي ذات الصلاة، أما الإقامة فهي الأداء مع الخشوع والإخبات لله رب العالمين؛ لأن الخشوع هو حضور القلب مع سكون الجوارح، وذلك بأن يستحضر المصلي ربه الذي يخاطبه بكلامه ويناجيه بالثناء والدعاء، ويعلن لربه سبحانه في كل ركعاته أنه لا يعبد سواه، ولا يستعين بغيره، فإذا لم يكن مستغرِقاً في الخطاب ومستشعراً عظمة رب الأرباب، فإنه لا يكون خاشعاً قطعاً، بل يكون مؤدياً، أي مسقطاً الفرض فقط، لكن هل ينال ثواب المصلين وأثر الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر، وأثرها في استشعار العبودية الحقة لله رب العالمين؟
ذلك ما لا يكون، لما ورد أن الرجل ليصلي، ثم ينصرف ما كتب له إلا نصفها، ثلثها، ربعها، خمسها، سدسها، ثمنها، تسعها، عشرها «بل لربما لا يكتب له شيء، فلا ترتفع قيد شبر، كما ورد من حديث عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: «إذا أحسن الرجل الصلاة، فأتم ركوعها وسجودها، قالت الصلاة: حفظك الله كما حفظتني، فترفع، وإذا أساء الصلاة، فلم يتم ركوعها وسجودها، قالت الصلاة: ضيّعك الله كما ضيعتني، فَتُلَفُّ كما يلف الثوب الخَلِقُ، فيضرب بها وجهه»، لأنه لم يقمها كما أراد ربنا سبحانه، مع أن دواعي الاستحضار والخشوع موجودة فيها، فقراءةُ القرآن ولو الفاتحة فقط بتدبر يستدعي الخشوع لما فيها من جلال الهيبة وعظيم المخاطبة، ناهيك عما لو قرأ سورة أو آيات، فإذا ركع استدعى ذلك تعظيم الكبير للملك الجليل سبحانه، وفيه من الثناء على الله تعالى، ما يسترعي كمال الخشوع لله رب العالمين، فإذا سجد بِحُرِّ وجهه وشرف خشمه، كان ذلك أدعى لاستشعار الذِّلة والمهابة لله الحق سبحانه، فإذا أثنى ودعا ازداد فقراً وعبودية لله جل شأنه، وهكذا في كل تنقلات الصلاة في كل ركعاته يجد من لذة المناجاة والشعور بالافتقار ما يستدعي كمال الخشوع.
فالله جل ذكره شرع الصلاة بهذه الهيئة التي لا مجال فيها للغفلة، إذ ليس فيها حركة خالية عن ذكر الله يذكِّر بعظمته، ليكون معيناً على ما طلبه من عبده من خشوع في هذه العبادة التي قسمها بينه وبين عبده، كما صح في الحديث القدسي، حتى لا يكون للعبد عذر عما طلب منه.
ومع كل ذلك، فإن هذا الخشوع يعد جوهرة مفقودة لدى كثير من المصلين، الذين يتلهَّون بذكريات الماضي أو تخطيط المستقبل عن لذة مناجاة الله تعالى، والأنس بمخاطبته، وما من أحد من المصلين إلا وهو يعلم أن الخشوع هو روح الصلاة وسر قبولها، لكن خِنزب الصلاة يغلب على الكثير، وهم الذين لم يستحضروا التعوذ منه بصدق، وإن لاكت ألسنتهم التعوذ منه في دعاء الاستفتاح، ولعل السبب في ذلك هو عدم فقه الصلاة فقهاً حقيقياً، يقيد الجوارح عن العبث، ويأسر الفؤاد للاستحضار.
• هذا الخشوع يعد جوهرة مفقودة لدى كثير من المصلين، الذين يتلهَّون بذكريات الماضي أو تخطيط المستقبل عن لذة مناجاة الله.
* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.