5 دقائق
المواطنة الشاملة في نظر الإسلام
مفهومُ المواطنة الشاملة هو أن يتساوى الناس في الحقوق والواجبات، بغض النظر عن الديانات والمعتقدات، لأنها تُعنى بحياة الناس في صلاح دنياهم، وحماية المجتمع والفرد، وأما دينهم فموكول إلى الله تعالى، فلا يكرهون على دين، ولا يؤذى صاحب دين وإن كان باطلاً؛ لئلا نؤذى في ديننا القيم الحق، كما قال ربنا جل ذكره: ﴿وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
وهذه المواطنة تعد أيقونةً جميلة تنشدها الدول قبل الشعوب، ويتمنَّاها أولو الألباب والقلوب، ولكن:
كلٌّ يدعي وصلاً بليلى * وليلى لا تقر لهم بذاكَ.
والحقيقة أنه ليس هناك دينٌ سماوي ولا وضعي اهتم بالمواطنة الشاملة كما اهتم بها الإسلام، تشريعاً وتطبيقاً.
وقد عقد منتدى تعزيز السلم دورته الثامنة من 5-7 من هذا الشهر، وافتتحه في إكسبو الشيخ نهيان بن مبارك، بمعية الشيخ عبدالله بن بيَّه، وذلك لإحياء هذا المفهوم الذي نادى به الإسلام جميعَ الأنام، وجعله أصلاً في التعامل بين المحكومين والحكام، وقد كانت كلمات المشاركين مستوحاةً من هدي الإسلام لتحقيق هذا المفهوم العام، فكان إثراءً مفيداً لنشر مفهوم المواطنة الشاملة بين الناس لعلهم يعقلون.
وقد خلص المنتدى إلى «إعلان أبوظبي للمواطنة الشاملة» الذي يعد وثيقةً يلتزم بها المشاركون، ومن خلالهم دولهم التي مثلوها لجعل هذا الإعلان موضع التطبيق في تحقيق المواطنة الشاملة لكل من يحمل مواصفات المواطنة القانونية في بلده، كما تطبقه واقعاً دولة الإمارات العربية المتحدة بين مواطنيها في تكافؤ الفرص وإتاحتها لكل مواطن ومواطنة، ليسهموا في بناء الوطن وحمايته، وتمنحهم التساوي في الحقوق والواجبات وقواعد العدالة، فأنتج التلاحم العديم النظير بين إماراتها السبع، فكلُّ فرد هو كل الوطن، وهذا ما تطلبه العدالة الاجتماعية التي غالباً ما تكون نظرية في كثير من البلدان، سوى دولتنا الحبيبة، وذلك لمَّا حباها الله تعالى قيادةً رشيدة من لدن تأسيسها على يد حكامها المخلصين بقيادة رُبَّان سفينة الاتحاد الماخرة في فضاء الفضائل زايد بن سلطان - طيب الله ثراهم أجمعين - فغدت تنظر لأبناء الشعب بعين واحدة، وكأنهم أسنان مشط، وهي اليوم بعد خمسين عاماً من نشأتها أدقُّ نظراً وأشد حرصاً على هذا المفهوم الباني للحضارة، والملتف بالقيادة، ولا تزيدها السنون القادمة إلا تماسكاً وتعاضداً وتلاحماً إن شاء الله تعالى، ولقد كانت هذه المواطنة في الإمارات محل إعجاب المشاركين من مختلف الدول، فكان من توصياتهم «تعميم النموذج الإماراتي كفضاء رحب للإنسانية والتسامح والمواطنة الشاملة».
إن المواطنة الشاملة هي روح وثيقة المدينة المنورة التي وضعها النبي عليه الصلاة والسلام عند هجرته إليها، وقد كان من بنودها الحمايةُ والنصرة والتكافل والتعاقل بين طوائف أهل المدينة المختلفة، ليكون الوطن هو الجامع لما فرقته الديانة أو الاتجاهات، فكل من يعيش فيها له حق العيش الكريم، والأمن على النفس والمال، وحرية العمل والكسب، وعليه واجب الذود عن الوطن وأهله وحمايته وعمارته وتحمُّل تبعات نصرته، ومن لم يقم بالحق لم يكن له واجب.
وقد سارت الخلافات والممالك الإسلامية على هذا النحو، فتعايش أهل الملل المختلفة في الوطن الواحد يتقاسمون حلوه ومره، كل ذلك بعهد الإسلام، وتشريعه القويم، ومهما كان وضع الدين في تلك الممالك المتعاقبة فإن هذا المبدأ العام لم يتغير، فتعانقت المنائر مع الكنائس والبيع والصوامع والأديرة والأربطة من غير نكير، بينما لم تطق بعض الشعوب غير الإسلامية مثل هذا التناغم البشري، فكم أفنت ودمرت وأبادت في محاكم التفتيش ونزوات الطيش البغيض بمفهوم التدين الزائف، وصدق الشافعي رحمه الله حين قال:
فحسبُكمُ هذا التفاوت بيننا* وكل إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
وها هي البشرية الآن بدأت تستفيق لنداء الإسلام لتحقيق مفهوم المواطنة الشاملة حتى يعيش بنو آدم وحواء في راحة وهناء؛ لإدراكهم أن الناس يتكاملون بتعاونهم وتآلفهم فيبنون ويصلحون ولا يفسدون، لاسيما وأن بينهم مواثيق الأمم المتحدة التي جعلت الناس على سواء، وقد نادينا من خلال منصة المنتدى أن ينقلب المشاركون إلى أهليهم داعين لهذه المواطنة التي دُعوا لإحيائها؛ فيكون كل مشارك داعية سلام ووئام.
ونسأل الله تعالى أن يحقق هذا المرام، لنرى كل الأنام ملتئمين في محبة واحترام.
* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.