الورع مِلاك الدين
ورد في الحديث عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع»، والمعنى: أن الاشتغال بنافلة طلب العلم النافع أفضل من الاشتغال بنافلة العبادة، لأن الفضل معناه الزيادة، فدل على أن من العلم ما هو فرض، وهو تعلم ما تصح به العبادة وتنعقد به المعاملة، فذلك واجب على كل عابد ومتعامل، ومنه ما هو نافلة، وهو الزائد عن ذلك، وهو الذي يعرف به المرء أنواع العلوم والمعارف التي تزيده إيماناً، وتورثه الخشية والإنابة لربه جل في علاه، وينتفع الناس بعلمه في دينهم ودنياهم، بخلاف العبادة، فإن نفعها قاصر على العابد نفسِه، والعمل المتعدي أفضل من القاصر، ويشهد لهذا ما أخرجه الطبراني من حديث عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يسيرُ الفقه خير من كثير العبادة وخير أعمالكم أيسرها»، وما أخرجه وأخرج البيهقي في الشُّعب عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما عُبد اللهُ بشيءٍ أفضلَ من فقهٍ في الدين»
ثم إن الحديث ربط العلم بالورع، وأن الدين كما يزداد بالعلم والمعرفة كذلك يزداد ويثبت بالورع، بل أفاد أن الدين مع الورع هو الخير كله، وكما قيل: ملاكُ الدين الورع، وهلاكه الترف، ونقصه السَّرف، ويُروى حديث عند الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «فضلُ العلم أفضل من العبادة وملاك الدين الورع»،
كل ذلك لأن الورع يحجز عن محارم الله تعالى، وعن انتهاك حدوده أو تضييع فرائضه، ويحمل النفس على المراقبة للمولى الأجل سبحانه، وإذا كان المرء كذلك فقد سلم له دينُه الذي هو لحمه ودمه، كما ورد في الأثر «فإنما دينك لحمك ودمك»، وهذا ما أرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام..» الحديث، كما أخرجه البخاري ومسلم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما.
والمعنى: أن على المرء أن لا يدخل في المتشابهات التي قد تورده المحرمات، بل عليه أن يقف عند الحلال البيِّن، ففيه كفاية للمرء وغُنيةٌ عن الدخول في المتشابهات.
وهذا هو الورع الذي هو أسهل شيء وأبسطه؛ لأنه ترك، لا مشقة فيه، كما ترجم البخاري في صحيحه عن حسان بن أبي سنان رحمه الله، قال: «ما رأيت شيئاً أهون من الورع، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، أي اترك ما قد يكون فيه شبهة توقعك في الحرام إلى ما لا تسأل عنه، وأصل هذا ما رواه الحسن بن علي رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دع ما يُريبك إلى ما لا يريبك، فإن الخير طمأنينة، وإن الشر ريبة»، أي دع ما ترتاب منه إلى غيره، وفي رواية واثلة بن الأسقع رضي الله عنه «وإن أفتاك المفتون»، وفي أخرى من رواية وابصة بن معبد الجهني رضي الله عنه «وإن أفتاك الناس وأفتوك»، وكان شريح القاضي يقول: «يا عبد الله، دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فوالله لا تجد فقد شيءٍ تركته لله»،
هذا هو الورع الذي يحجز عن المحارم، ويحمل على الطاعات، وهو الذي كان عليه سلفنا الصالح رضي الله عنهم، فعمروا دينهم ودنياهم، وانقلبوا إلى ربهم سالمين من الأوزار، فأثابهم الله صلاح دنياهم، وحسن مآبهم.
فما أحوجنا إليه في هذا الزمن الذي كثرت فيه المتشابهات في المكاسب والمعايش وما يدخل في البطون، ومعلوم أن الكسب الحرام وإن تكاثر في اليد أو في الحساب فهو ممحوق البركة، معدوم الفائدة، وقد يكون سُماً زعافاً لصحة المرء، فضلاً عن كونه وبالاً له في مآله يوم ينقلب إلى ربه، وما أسهلَ على المرء أن يجتنب المشتبهات؛ لأن في الحلال سعةً وغُنية عن الحرام، والحمد لله الذي يسر لعباده المحبوبين لديه اليسرى وجنبهم العسرى.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.