الصلاة معراج المؤمنين
من إكرام الله تعالى لهذه الأمة المحمدية أن جعل سر عبوديتها له سبحانه في الصلاة التي أكرمها الله تعالى بها ليلة معراج نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام إليه، إذ كان مما خلع الله تعالى على نبيه في هذه الليلة العظيمة فريضة الصلاة التي افترضها عليه وعلى أمته، فلم يكن فرضها بواسطة سفير الوحي، جبريل عليه السلام، كسائر فرائض الإسلام من زكاة وصيام وحج وغير ذلك، للتدليل على عظيم منزلتها عنده سبحانه، ليُشعر المكلفين بأنها لُبُّ عبوديتهم له، وبقدر ما تكون محافظتهم عليها تكون منزلتهم عند المولى جل شأنه.
لا جرم فإنها معراج المؤمن لربه سبحانه، ولذلك يخاطب المصلي ربه خطاب مكافحة، فيقول: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، لأنه واقفٌ بين يدي ربه، مستشعرٌ جلالته وعظمته، ممتلئ قلبه من مهابته وخشيته، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: «إن أحدكم إذا قام في صلاته فإنه يناجي ربَّه، أو إن ربه بينه وبين القبلة»، كما رواه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه، والمعنى أنه الآن في مقام القرب من ربه جل وعلا، قرب استحضار، وليس قرب مكان، كما قال في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد، فأكثروا الدعاء»، وهو ما يشير إليه قول ربنا جل شأنه: ﴿وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾، أي أن القرب من الله تعالى وإليه يكون بالسجود بين يديه، مع استشعار عظمته، وبسط حاجة العبد إليه، فإذا كان العبد المؤمن بهذه المثابة فإنه يترقَّى في مقامات العلو، ويعرج إلى بساط الحضرة القدسية، كما عرج نبينا عليه الصلاة والسلام، فما إن كان قاب قوسين أو أدنى حتى حيَّا ربَّه جل شأنه بقوله: التحيات الطيبات المباركات.. إلخ، فحياه ربه بأحسن منها حين قال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وفي ذلك المقام العظيم لم ينس النبي عليه الصلاة والسلام أمته، فقال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين..
فالمؤمن في هذه الصلاة يكون في حضرة القدس روحياً، فإذا خشعت جوارحه وامتلأ قلبه بجلال الله تعالى كتب الله له الفلاح في دينه ودنياه، كما قال سبحانه: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ..﴾ الآيات، بل إن ربنا سبحانه يشاطره هذه الصلاة التي أحبها منه، كما يقول في الحديث القدسي: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: مجّدني عبدي، فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل»، كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذا يعني أن الله تعالى يكرم المصلي بما يليق بكرمه وجوده، كما أكرم نبيه سيدنا محمداً عليه الصلاة والسلام ليلة معراجه بمثل ذلكم القُرب والتجلِّي.
ولما كانت الصلاة بهذه المثابة العظيمة لم يُبح الشرع الشريف تركها بحال لمن جرى عليه قلم التكليف، حتى لا يفوته هذا التجلي الإلهي بالعطاء والفضل والتكريم، فإنها كانت هدية ملك الملوك سبحانه لمن تشرّف بالعروج إليه والوقوف بين يديه، ولأمته من بعده، ومثل هذا التكريم لا يستهين به من عرف قدره، بل يأخذه باعتزاز وافتخار، كما كان من النبي عليه الصلاة والسلام الذي قبل من ربه ما أكرمه به مع ثِقله، فلما علم الله تعالى منه صدق القبول أمضى فريضته، وخفف عن عباده، فجعلها خمساً في العمل، خمسين في الأجر، كما قبل من خليله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام صدق التقرب إليه بذبح ولده، فقبل منه صدق الامتثال، وفدى ابنه إسماعيل بذبح عظيم، لأنه سبحانه يريد من عباده الامتثال بنحو ما أمر جل شأنه، فمن وفَّى له بالصدق، أكرمه بالقبول ومنّ عليه بالتخفيف.
والمؤمنون الذين يستشعرون هذا الفضل العظيم بالوقوف بين يديه مناجين، لا يقتصرون على المفترضات، بل يكثرون من نوافل الركعات والسجدات؛ لعلمهم بشرف هذه المقامات.
ربنا اجعلنا من مقيمي الصلاة وتقبل دعاء.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.