الأمن الغذائي العالمي وسباق الزمن
لا شك في أن الصراع الدائر بين روسيا وأوكرانيا قد بدأ بترك آثاره الملموسة خارج حدود البلدين، فهذه الحرب المستعرة قد أصابت بضرباتها العديد من الاقتصادات العالمية وتركتها حائرة يملؤها الترقب والانتظار.
ولعل اللافت اليوم هو أسواق القمح وما آلت إليه نتيجة هذا الصراع، حيث فقدت ما نسبته ثلث إمداداتها خلال أسابيع قليلة، وبدأت تضرب بتهديداتها عمق الأمن الغذائي العالمي وتضعه في حال من التأرجح، وهو الذي لايزال يتعافى من جائحة «كورونا» وظلالها الثقيلة.
إن الذي حدث ببساطة هو توقف صادرات الدولتين من القمح والحبوب جراء هذه الحرب، وإذا علمنا أن كلاً من روسيا وأوكرانيا تصدران من القمح سنوياً نحو 37 مليون طن للأولى و18 مليون طن للثانية، أضف إلى ذلك الشعير والحبوب الأخرى، سنجد أن الدولتين تسهمان بما يقارب 30% من إجمالي صادرات الحبوب العالمية؛ وهو رقم كبير جداً يدفعنا لإدراك حجم الضرر وآثاره المتوقعة على المدى القريب قبل البعيد، سيّما وأن مؤشر أسعار الغذاء للأمم المتحدة قد سجل فعلاً في شهر فبراير المنصرم أعلى مستوى له على الإطلاق منذ عقود.
وبالطبع فإن الأكثر تأثراً في هذه الحالة هي الدول التي تعتمد جُلّ وارداتها على الدولتين، وهي هنا دول الشرق الأوسط وإفريقيا، إضافة إلى بعض الدول الآسيوية الأخرى، وهي جميعها دول ذات كثافة سكانية عالية يُشكل القمح وغيره من الحبوب المكون الرئيس في جميع وجباتها الغذائية؛ فمصر مثلاً، وهي أكبر مستورد للقمح في العالم، يأتي نحو 70% من قمحها من روسيا وأوكرانيا، وكذلك تؤمن تونس نحو 80% من احتياجاتها من الحبوب من هذين البلدين، أما لبنان فيستورد 60% من قمحه من أوكرانيا؛ والأمر ينطبق على العديد من البلدان الأخرى التي وجدت نفسها فجأة أمام معضلة كبيرة تتمثل في البحث عن دول بديلة للتوريد وبسرعة كبيرة قبل نفاد المخزونات الاستراتيجية التي لا تدوم في أفضل الأحوال أكثر من بضعة أشهر.
إن هذه الأزمة تطرح سؤالاً مهماً أمام البشرية، ألا وهو كيف نصل إلى الاستدامة الغذائية القادرة على مواجهة جميع التحديات مهما عظمت وطغت تداعياتها؟
طبعاً الإجابة ليست بهذه السهولة، فتآكل الأمن الغذائي حول العالم مردّه إلى مجموعة متعددة من العوامل، منها الجفاف وتغير المناخ، ومنها ارتفاع تكاليف الطاقة والأسمدة، إلا أن أهمها هو عدم وجود خطط واضحة للتنمية الزراعية في الدول الأكثر حاجة لتلك الخطط!
والحل هنا يكمن في صميم المشكلة نفسها، ومعالجتها جزءاً بعد جزء هو السبيل الأفضل لتحقيق المأمول، أي أن الجهود يجب أن تنصب جميعها في سبيل إيجاد أنظمة مبتكرة ومستدامة لزيادة الإنتاجية الزراعية في مختلف دول العالم دون المساس بالبيئة والموارد الطبيعية؛ وهذا يتحقق أولاً من خلال تعزيز النشاط البحثي في المجال الزراعي، ومن ثم التوسع في توظيف التقنيات الحديثة والذكاء الاصطناعي في هذا المجال؛ فمن الزراعة المائية إلى الزراعة العضوية، ومن الزراعة العمودية إلى تلك الملحية، إضافة إلى غيرها الكثير من الأساليب الكفيلة بتطوير المشهد الزراعي العالمي على مر العقود القادمة.
ولعل القطاع الذي يحمل الراية هنا هو قطاع التعليم، فهو المسؤول عن بناء ثقافة زراعية مستدامة تواكب متطلبات المستقبل، وتغرسها عميقاً في أذهان الناشئة؛ فمجتمع الغد هو مجتمع لا يخلو أي بيت فيه من مزارع مسؤول ينشر اللون الأخضر في كل مكان.
إن الفرصة اليوم سانحة أكثر من أي وقت مضى لتحقيق كل ما سلف، فالعالم الذي شهد على مر العقود الماضية تقدماً علمياً كبيراً انعكس نمواً على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية؛ يتعين عليه اليوم الالتفات مطولاً إلى القطاع الزراعي، لأنه القطاع الحيوي الذي سيلعب الدور الأكبر في خلق عالم خالٍ من الجوع تسهم فيه الزراعة في تحسين مستويات العيش للجميع.
مؤسس سهيل للحلول الذكية
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.