تمثيلات الكلب الوفي في الأدب العربي والأميركي
أمشي كل يوم من مسكني في شارع إيرفينغ في مدينة كمبردج الأميركية إلى قسم لغات وحضارات الشرق الأدنى في جامعة هارفارد الشهيرة، حيث أنتسب كباحث زائر. خلال هذه المسيرة القصيرة، غالباً ما أرى الأميركيين مع كلابهم ذات السلالات والأشكال والألوان المختلفة. هذه الكلاب مدللّة حقاً، وبعضها ألبسوه سترات دافئة تقيه برد كمبردج القارس. صادفت رجلاً أميركياً يصطحب كلبه البودل، وهذا ذكرني بتشارلي، الكلب الوفي لجون شتاينبك، الروائي الأميركي الشهير، الذي كتب عنه كتاباً تحت عنوان «رحلات مع تشارلي» (1962)، وهذا جعلني أفكر في كيفية تمثيل الكلب في الأدب.
نرى في مجتمعاتنا العربية من ينفر من الكلاب ولا يقترب منها، لهذا قد يتعجب البعض لوجود هذا الكتاب التراثي الذي يحمل عنواناً لافتاً، لتفضيله الكلاب على بني البشر: «فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب»، وهو كتابٌ من تأليف أبي بكر بن المرزبان (توفي عام 921م). يذكر الكتاب ما قيل في الكلب من أحاديث وأقوال الشعراء والحكماء والرواة، ويعكس أيضاً نظرات تنتقد قليلي الوفاء من البشر، مقدراً قيمة الوفاء عند الكلب الذي يُرافق الناس ليكون حارسهم ورفيقهم.
يتألف الكتاب من جزأين، الجزء الأول يدين البشر، لجبنهم وجشعهم وعدم ولائهم، والثاني يثني على الكلاب، لشجاعتها، ونكران الذات، والولاء. يقتبس المؤلف من الشعر القصص لدعم هذه الادعاءات، ولكن، وكما يقول الدكتور عادل الاسطة، مقارنة بالكلاب في المجتمعات الغربية، كلابنا ضالّة وشرسة وهائجة ومشرّدة وتنبح وتزعج الناس، أمّا كلابهم فهي خلوقة ومهذّبة ونظيفة، وتحسن الإصغاء، وذات نسب. وفي الأدب العربي، تظهر الكلاب في عناوين الروايات، مثلما نجد في «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، والمفارقة هنا هي أنّ كلاب الرواية هم الأشخاص الذين من المفترض أنهم شرفاء: رؤوف علوان الثوري المرتد، وعليش التلميذ غير الوفي، ونبوية الزوجة الخائنة، ولكن الشريفة بالمقارنة بهم جميعاً هي نور المرأة الغانية ذات السمعة السيئة.
هذا في ما يخص الكلاب الضالة، كلاب الشوارع، أمّا كلاب البيوت، الكلاب التي من المفترض أن تكون «خلوقة ومهذبة ونظيفة وتحسن الإصغاء وذات نسب»، فنجدها في قطعة شعرية بالعامية المصرية، كتبها بسخرية مريرة أحمد فؤاد نجم، بعنوان «كلب الست»، والست هنا هي أم كلثوم، سيدة الغناء العربي. يمرّ إسماعيل الطالب الفقير بالفيلا التي تملكها الست، فيهجم عليه كلب الست الشرس ويعضّه، وعندما يذهب لقسم الشرطة يهان، وينتصر البوليس للست ولكلبها.
أحببت تشارلي، البودل الفرنسي، كلب شتاينبك، حتى أنني بدأت أتخيل السفر في أنحاء مصر مع حيوان أليف مثله، لكنني شعرت أن للقطة مكانة خاصة في تراث مصر القديمة، وفي بيتنا أيضاً، لذلك تخيلت كتاباً بعنوان «رحلاتي مع القطة (كيتي) بحثاً عن مصر». لكن هناك مشكلة واحدة: القطة «كيتي» هي حيوان أليف لابنتي، أميرة، وهي قطة أرستقراطية مستقلة للغاية، تتعالى على القطط الأخريات، ولست متأكداً من أننا سنتعايش لأشهر متتالية، لأنّ كل واحد منّا له طريقته وروتينه اليومي. وفوق ذلك فهي لا تتمتّع بصفات الوفاء عند الكلب: تأكل ولا تشكر، تنام طول النهار، تحدثها فتتجاهلك، ترجع البيت فلا تهشّ لاستقبالك.
أمّا الكلب تشارلي، فيصفه شتاينبك بالحكيم للغاية، وبالناضج، الذي يستخدمه كأداة لإجراء اتصالات مع العديد من الأشخاص الذين يصادفهم في رحلته. في نظر شتاينبك الكلب، خصوصاً الغريب مثل تشارلي، هو وسيط بين الغرباء، ما يسمح له بمعرفة المزيد من الأميركيين الذين سيجذبهم إليه كلب وفيّ، كلب ودود، خلوق، مهذب، ذو نسب، محبّ للسلام، عقلاني، بل أكثر عقلانية ومسالمة من بعض بني البشر.
• نرى في مجتمعاتنا العربية من ينفر من الكلاب ولا يقترب منها، لهذا قد يتعجب البعض لوجود هذا الكتاب التراثي الذي يحمل عنواناً لافتاً لتفضيله الكلاب.
باحث في جامعة هارفارد الأميركية
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.