صمنا رمضان
حمداً لك يا ربنا أن بلَّغتنا صيام شهر رمضان وقيامه، وكما بلّغتنا الصيام والقيام فمُنَّ علينا بالقبول، واجعلنا ممن أدرك رمضان فغُفر له، هذا هو أملنا منك يا أكرم الأكرمين، لقد أمرتنا بالصيام لنتزكَّى بالتقوى ونتحلَّى بمكارم الأخلاق التي بعثت بها نبينا عليه الصلاة والسلام والأنبياء قبله، وقد جاهدنا أنفسنا لذلك، فاستشعرنا عظمة أوامرك ونواهيك، وراقبناك في صيامنا، وتبتَّلنا إليك في قيامنا، وكانت مناجاتُك أحبَّ إلينا من مناجاة محبوبينا في دنيانا؛ لأنك صاحب الفضل العظيم، وذو الطَّول الكريم، فمناجاتك هي الباقية، وصيامنا لك هو المدخَّر لأنفسنا خاصة، فأنت الذي خصَصَتَ به نفسك لتجزينا به بعطائك الجزيل الذي لا يدخل تحت يد حاسب ولا كاتب.
صمنا ذلكم الشهر العظيم الذي خصَصتنا به من بين الأمم، مع أنك يا مولانا قد كتبت الصيام على من قبلنا من الرسل والأمم والشرائع، فكانوا أكثر صياماً منا، لكنهم أقلُّ أجراً، فقد جعلت لنا في هذا الشهر خصوصيتين لا توجدان في غيره من الشهور، ولم تعطهما لأمة قبلنا، خصوصية تنزل القرآن العظيم في هذا الشهر ليكون دستور حياتنا، وسلم رجائنا، وعدة للقائك، وخصوصية ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وأعظم ليلة من ليالي الدنيا، لتكون هذه الليلة جابرةً لكسر قلوبنا عن تقاصر أعمالنا مقارنة بمن كان قبلنا، وقد وفقتَ لهذه الليلة خواص عبادك الذين أقاموها تعبداً لك، وتهجداً وتذللاً بين يديك، ومناجاتك بكتابك وبما أنطقتهم من الدعاء وحسن الرجاء، فلك الحمد على كل ذلك، فذلك فضل منك يا مولانا ونعمة، وأي نعمة أكبر من نعمة التشريف بعبادتك وأنت الملك الكريم، والجواد الرحيم! بينما نرى كثيراً من خلقك أخطأوا طريقك، فعبدوا من لا ينفعهم ولا يضرهم ولا يغنيهم عنك شيئاً، وكم رحمناهم وتحسرنا على ضلالهم الذي سيوردهم موارد الهلكة! وتلك مشيئتك وإرادتك في خلقك، وأنت العزيز الحكيم.
صمنا رمضان الذي أُعطينا فيه خمس خصال، لم تعطها أمة قبلنا، كما أخبرنا نبيُّنا الذي لا ينطق عن الهوى، صلوات الله وسلامه عليه، فقد جاء عنه قوله: «أُعطيتْ أمتي خمسَ خصال في رمضان، لم تعطها أمة قبلهم: خَلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويُزين الله عز وجل كل يوم جَنَّته، ثم يقول: يوشك عبادي الصالحون أن يُلقوا عنهم المئونة والأذى ويصيروا إليك، ويصفَّد فيه مردة الشياطين، فلا يخلصوا فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويغفر لهم في آخر ليلة»، قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: «لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله».
لك الحمد يا مولانا حمداً ترضى به عنا، ويبلغنا رضاك، فنحن أمة نبيك المصطفى سيدنا محمد، الذي ورد وصفه ووصفنا في بعض ما أنزلت من كتبك «محمد رسول الله، أمته الحمَّادون، يحمدون الله في السراء والضراء، يحمدون الله في كل منزلة، ويكبرونه على كل شَرف»، فنحمدك على ما أعطيتنا من الفضل، وأكرمتنا من العبادة، ونسألك يا مقلب القلوب أن تثبِّتنا على طاعتك، وتعِيننا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
ها نحن قد ودعنا شهر الصيام، وطويت صفحته إلى أن نلقاه الأعوام القادمة، إن شاء الله تعالى، لكنا لم نودع فضائله ومكارمه التي تحلَّينا بها؛ لأنا قد مرِنَّا عليه فتعلمنا الصبر على الطاعات، والصبر على المكاره، والصبر على هوى النفس، وتعلمنا الجود والسخاء، وتعلمنا صون اللسان عن الكذب والبذاء، وتعلمنا صدق القول والفعل، وتعلمنا الاجتهاد في العبادة، وصدق الدعاء والرجاء، وتعلمنا صفاء القلب وزكاء الروح.. تعلمنا كثيراً مما ندبنا إليه نبينا عليه الصلاة والسلام من المكارم الخُلقية التي ترقِّي مراتب الإيمان، ونحن إن شاء الله تعالى على ذلك العهد الذي فارقنا عليه شهر رمضان ماضون ومتمسكون، وبذلك نكون قد حققنا مراد ربنا جل شأنه من فرض الصيام علينا، وهو الوصول إلى مرتبة التقوى، التي تعني أن لا يفقدنا ربنا حيث أَمرنا، ولا يجدنا حيث نهانا، وتعني دوام المراقبة لله جل شأنه، لأنه المعبود، وهو المقصود في شهر رمضان وغيره، وإنما شرع لنا هذا الشهر لنتمرس فيه على مراده منا حتى يسهل علينا سلوك سبيل الاستقامة.
فنسأل الله تعالى الثبات عليها.
* «كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.