وباء «كورونا» وتمثيلات المرض في الأدب
نحن أعلم بشؤون أجسادنا، فنحن نعيش في داخلها، وحيثما توجد هذه الأجساد نوجد، وحين تتألم نتألم، وحين تقوى نقوى، وأينما أقامت يصبح مكان إقامتها هو بعينه مكان إقامتنا. بهذا المعنى يمكن القول إنّ عنواننا الحقيقي هو جسدنا، وليس عنوان البيت الذي نسكنه أوالصندوق الذي يحمل رقمنا البريدي.
يمكن للأطباء تشخيص المرض وليس المعاناة؛ يمكنهم أن يخبرونا بشيء عن المرض والعلاج، لكن الروايات التي يقدمها المصابون هي وحدها التي يمكن أن تمثّل الإحساس بالمرض وتجربة الإنسان يوماً بعد يوم مع الألم. ويمكننا قراءة العديد من الروايات عن الأمراض والمعاناة الإنسانية في كتب تراوح بين «يوميات عام الطاعون»، للكاتب الإنجليزي دانييل ديفو (1722)، والتي وثّق من خلالها الطاعون الذي اجتاح لندن عام 1665، و«آلام الشاب فارتر» لغوته، و«الطاعون» لألبير كامو (1947) و«المرض كاستعارة» ﻟسوزان سونتاج (1978)، و«الحب في زمن الكوليرا» لغبرييل جارسيا مركيز (1985)، و«العمى» للبرتغالي خوسييه ساراماغو (1995)، ورواية «عام الطوفان» للكاتبة الكندية مرجريت اتوود (2009)، ورواية «الحب في زمن كورونا» للكاتبة والإعلامية اللبنانية استفاني عويني (2020).
ويمكننا أن نذكر قصيدة «الكوليرا» للشاعرة العراقية نازك الملائكة (1947)، التي أرّخت لانتشار وباء الكوليرا وقتذاك، وضاقت عاطفتها الجياشة بقيود القصيدة التقليدية؛ ما جعلها تنظم قصيدتها في قالب جديد سمّي في ما بعد: «الشعر الحرّ».
والآن وقد مرّ أكثر من عامين على وباء «كورونا» والقيود التي فرضها على حياتنا كمجتمعات بشرية نسأل: ماذا فعل بنا هذا الوباء؟ وكيف غيّر عالمنا ومفاهيمنا، وعلاقاتنا مع من نعيش بينهم؟
قبل هذا الوباء، كنا نتحدث عن ضرورة أن نتجاور ونتعاون كبشر، أن نكون معاً، أقرب إلى بعضنا بعضاً. كان القرب والتقارب والتقريب هو ما كنا بحاجة إلى تحقيقه، والعيش والتعايش والمعايشة هو ما نطمح إلى تأسيسه، والقبول والتقبّل والمقابلة وكل مشتقات هذه الكلمات بين ما كنا ندعو بعضنا بعضاً للقيام به.
الآن أصبح التباعد هو هدفنا، والبين شعارنا، والنصائح المجتمعية لنا هي: التباعد الاجتماعي، والتباعد الجسدي، في الداخل والخارج، في المدارس والمشافي، في المصاعد والمهابط، وفي طوابير اختبارات الـPCR وطوابير محال السوبر ماركت.
ولكي نفهم هذا الخلط الذي أحدثه هذا الوباء في الترتيب المنطقي للأسباب والنتائج أقترح أن نسترجع مجازاً في المصطلحات الأدبية يسمى ميتاليبسيس (metalepsis)، وهو عندما يضع المرء النتيجة قبل السبب، والحاضر قبل الماضي،، والأحداث المعاصرة قبل السلائف. نجد في بعض الأغاني العربية الشعبية أن الحب مرض يجب أن نصاب به، والألم يجب أن نستمرئ معاناته؛ ألا نطلق على المرأة التي نحبها «حبيبتي» أو «معذبتي» ونعتبر الواحدة مرادفة للأخرى؟ ألا نسمّي متعة الاستماع للحن جميل «طرب» وهو خِفَّةٌ وهِزَّةٌ تثير النَّفْسَ لفرحٍ أَو حُزْنٍ أَو ارتياح؟ ألا تسعد الأم في بلادنا بوليدها وتعبّر عن «غلاوته» بقولها: «الضنا غالي»؟ أليس غريباً أن يتطابق مصدر السعادة هنا مع مصدر التعب والشقاء (ضنِيَ يَضنَى، اضْنَ، ضَنًى وضَنَاءً)؟
وعندنا الداء والدواء صنوان في الأغاني الشعبية؛ يذكرني ذلك بالكلمة اليونانية «فارماكون» pharmakon التي تعني السم وتعني أيضاً الترياق (يجب الإشارة هنا إلى كتابات الفيلسوف الفرنسي المعاصر جاك دريدا عن هذه المفارقة، وكيف أنها تثير إشكالية تفسيرنا لانتحار سقراط بالسم، فدريدا يدعونا للتشكيك في أنّ سقراط تناول سمّاً، فلربما تناول ترياقاً، ولربما التبس القول علينا ونحن نقرأ الخبر).
لاشكّ أن وباء «كورونا» قلب الحياة اليومية رأساً على عقب، وجعل البشرية تنتفض في مواجهته والقضاء عليه وقد حفّزتها غريزة حب البقاء والمحافظة على النوع، ولاشكّ أيضاً أن ثمة أعمالاً إبداعية عربية وعالمية يتم الآن تحضيرها وعجن عناصر التجارب المؤلمة مع «كورونا» لتقدم لنا مادة للقراءة والتأمل.
* باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.