تأملات في آثار الضوضاء على الصحة
من يعش منّا في مدن كبرى سيجد التلوث الضوضائي أكثر من مجرد مصدر إزعاج. إنه خطر على الصحة، طائرات تخترق سكون الليل، وهدوء يتراجع تكتيكياً أمام زحف أصوات مكيفات الهواء، ثمّ يرفع الراية البيضاء ويستسلم كأسير حرب للموسيقى الصاخبة، ومعدات البناء، وحركة المرور في الشوارع، ونباح الكلاب، وصافرات الإنذار.
وفي تاريخ الجماعات البشرية، ارتبطت الضوضاء والأصوات العالية بالاحتفالات الموسمية، وبطقوس العبور، مثل الميلاد والزواج والموت، ففي أدغال إفريقيا تدق الطبول بقوة أثناء تشييع جنازة الميت، وذلك لاعتقاد الناس أنهم بذلك يطردون الأرواح الشريرة التي تأتي لإيذائهم في لحظات الانكسار والحزن على الميت. وفي المجتمعات الغربية المتقدمة (وبعض مجتمعاتنا العربية) تطلق 21 طلقة في الجنازة العسكرية لتشييع كبار الشخصيات. فهل هناك علاقة يا ترى بين دقات الطبول وطلقات المدافع في هذه الحالة؟ وهل من دافع مشترك بين البشر في ردودهم الفطرية تجاه الموت؟
ولدت في الريف المصري في بلدة صغيرة تسمى «بيلا»، ونشأت وتلقيت تعليمي في مدينة الإسكندرية، ثم انتقلت إلى مدينة مونتريال في كندا، حيث حصلت على الدكتوراه، وفي السنوات الأخيرة انتقلت للتدريس في دولة الإمارات، والآن أقوم بأبحاث في جامعة هارفارد بمدينة متوسطة الحجم تسمى كمبردج. الفرق بين حياة الريف وحياة المدن كان يكمن في مصادر ونسبة الضوضاء. لا أذكر من طفولتي في الريف المصري سوى أصوات الطبيعة، خصوصاً صوت الكروان وزقزقة العصافير (وكذا الصوت الجميل لأبلة نازك - الله يرحمها - مدرستي في أول سنة في المرحلة الابتدائية)، وفي الإسكندرية صدمتني النسبة العالية لضجيج السيارات، والقطارات، وأحياناً الطائرات. طبعاً لا يعني هذا أن المدن كلها تتميز بالضوضاء العالية، وتعاني نسبة التلوث السمعي نفسها، فالقاهرة ودلهي ونيويورك بها نسبة عالية جداً مقارنة بمدينة «أوتوا» الناعسة، عاصمة كندا، وأكثر مدنها هدوءاً.
يمكن قياس الضوضاء بطرق فيزيائية، يُعبّر عنها بالديسيبل decibel units، فمثلاً يُقدّر كلام الفرد العادي من 50 إلى 60 ديسيبل، والضوضاء الناجمة عن بوق السيارة مثلاً تساوي 100 ديسيبل. وقد تصل حركة الأجسام وحفيف الملابس إلى 20 ديسيبل. ولكن الضوضاء التي تزيد شدتها على 30 تسبب اضطرابات نفسية، والضوضاء التي تبلغ ما بين 60 و90 تسبب متاعب نفسية وعصبية، وعيوباً في درجة السمع. أما الضوضاء التي تزيد على 120 فتؤثر تأثيراً مباشراً في خلايا الكتلة العصبية داخل الأذن.
لمدة نصف قرن، اعتبرت الوكالات الأميركية، مثل وكالة حماية البيئة، أن التلوث الضوضائي «خطر متزايد على صحة ورفاهية سكان الأمة». ذكرت وكالة البيئة الأوروبية أن الضوضاء تأتي في المرتبة الثانية بعد تلوث الهواء، حيث أن التعرض البيئي هو الأكثر ضرراً بالصحة العامة، ومع ذلك، في القطاعات من التنظيم الحكومي إلى ممارسات الرعاية الصحية، تظل التهديدات التي تشكلها الضوضاء «غير مقدرة في كثير من الأحيان»، وفقاً للجنة الدولية المعنية بالآثار البيولوجية للضوضاء.
يحاول الباحثون والأطباء، خصوصاً هنا في جامعة هارفارد، تغيير هذا. لقد أظهروا أن التلوث الضوضائي لا يؤدي فقط إلى فقدان السمع وطنين الأذن وفرط الحساسية تجاه الصوت، بل قد يتسبب في الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية أو يؤدي إلى تفاقمها، داء السكري من النوع 2، اضطرابات النوم، ضغط عصبي، مشكلات الصحة العقلية والإدراك، بما في ذلك ضعف الذاكرة ونقص الانتباه، التأخر في التعلم في مرحلة الطفولة، وانخفاض الوزن عند الولادة. يحقق العلماء في الروابط المحتملة الأخرى، بما في ذلك الخرف.
تشير التقديرات إلى أن التعرض المزمن للضوضاء يسهم في 48 ألف حالة جديدة من أمراض القلب في أوروبا كل عام، ويعطل نوم 6.5 ملايين شخص. ومع ذلك، لايزال تحديد مساهمة التلوث الضوضائي في المشكلات الصحية في مجتمعاتنا يمثل تحدياً، فنحن بحاجة إلى متابعة قياس نسبة التلوث الضوضائي والمراقبة المستمرة، وتبني استراتيجيات التخفيف من الضوضاء الشخصية وتقنيات الحد من التوتر.
* باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.