شرق.. غرب
نظرات في التفكير النقدي عند العرب والأميركيين
كنت جالساً في مطعم بنيويورك، عندما سمعت أماً أميركية شابة تسأل ابنها الذي ربما لم يتجاوز الخامسة من عمره: «أليكس، حبيبي، ماذا تحب أن تشرب؟».. أعتقد أن الصبي اختار الحليب، وعندما حان وقت طلب الوجبة، سألته مرة أخرى، وهي تقرأ من قائمة الطعام، أن يختار وجبة، واختار، ثم جاء وقت التحلية وسألته عن نكهة الآيس كريم التي يريدها، واختار نوعاً باسم غريب لم أعرفه، وتفاصيل أغرب لما يشتهيه من إضافات. نظرت الأم إليه بابتسامة، وقالت بحزم: «ما رأيك أن تضيف شيئاً واحداً على الآيس كريم؟ لازم نحافظ على أسناننا، أوكيه حبيبي؟»، وعدّدت له الإضافات التي يمكنه أن يختار منها.
تأملت هذا المشهد، وفكّرت في الطريقة التي نشأنا بها في مجتمعاتنا العربية، وتذكرت أننا كأطفال لم نُسأل أبداً عما نود أن نشربه أو نأكله؛ فكان يُقدّم لنا جميعاً نوع موحد من المشروبات والمأكولات، حتى إن الضيوف البالغين كان يُقدم لهم المشروب نفسه، وعلى الأرجح شاي أسود مع ملاعق عدة من السكر (الأمور اختلفت الآن وأصبحنا نسأل: تحبون شاياً أم قهوة؟).
دعونا نعد إلى أليكس وأمه. سنكتشف على الأرجح أن هذا الصبي لديه غرفته الخاصة، وسريره، ورفوف كتبه الملونة، وملصقات الحائط الخاصة به، والتي يمكن أن تكون لمغنٍ، أو لشخصية رياضية مشهورة، أو لحيوان «كيوت»، مثل حيوان الباندا بعيونه المكحّلة. في هذه المساحة الكبيرة، ينشأ أليكس مع حرية اختيار الألعاب والملصقات والألوان، وحتى قميص الـ«تي شيرت»، والتصميمات المختلفة، والكلمات المرسومة عليه. لذلك، عندما يذهب أليكس إلى المدرسة، فإن من الطبيعي أن يقوم بقراءة النصوص، وتكوين الرأي فيها، واختيار الهواية، والرياضة، والآلة الموسيقية التي تعجبه، وبالتأكيد سيختار الأصدقاء، ومن منهم سيدعوه لحفلة عيد ميلاده. وفي الجامعة، سيقوم بالقراءة بشكل نقدي، وبمناقشة النصوص التي يفحصها، وتشكيل وجهة نظر مستقلة، وعدم تكرار ما يقوله أساتذته في قاعة المحاضرات.
في مساق بالإنجليزية عن التراث العربي، كان عندي طلاب من العرب والأميركيين، وكنت أناقش مقطعاً مترجماً من مقدمة ابن خلدون (1332 - 1406). سألت طالباً عربياً عن رأيه في أفكار ابن خلدون، فأجاب: «أنت تسألني يا بروف عن ابن خلدون؟ أنا؟ يمكنني أن أخبرك بما قال»، قلت: «أريد أن أسمع رأيك»، صمت والحيرة تعلو وجهه. انتقلت إلى الطالب الأميركي، فشرع في عرض رأيه في ابن خلدون، وانتقاده لأفكاره عن «العصبية»، وصعود وسقوط الأمم، وقارن بين ابن خلدون وإدوارد جيبون (1737-1794) المؤرخ الإنجليزي، وكتابه «اضمحلال الإمبراطورية الرومانية وسقوطها»، الذي يتتبع فيه تاريخ الحضارة الغربية من ذروة الإمبراطورية الرومانية حتى سقوط بيزنطة في القرن الـ15.
بعد ذلك، تكرّر المشهد، ووضحت لي الفروق الجلية بين الطلاب الذين نشأوا على التفكير النقدي، والتشجيع على صياغة آرائهم المستقلة، والطلاب الذين يكبرون دون تشجيع على تشكيل آرائهم، ويعتقدون أن أفضل ما يمكنهم فعله في تعليمهم الجامعي هو حفظ المعلومات، وإعادة إنتاجها في الامتحانات.
قلت في نفسي: ربما كان لهذا الطالب الواعد أمّ مثل أمّ أليكس، كانت تسأله عما يريد أن يشرب أو يأكل، وتهيئ له الغرفة والفضاء وحرية الاختيار. سيعود هذا الطالب الزائر إلى بلاده، وسيستثمر ما تعلّمه في بلادنا، ويزيد عليه، مشاركاً في إنتاج المعرفة التي تجعل بلاده في مقدمة الأمم.
إن التفكير النقدي هو أساس التعلّم الحقيقي، وطريقنا - نحن العرب - نحو التقدم والازدهار.
باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.