المسلمون ومعترك الحلال
نعاني نحن معشرَ المسلمين معتركاً صاخباً في حياتنا اليومية؛ إنه معتركُ الحلال الطيب الذي أمرنا الله تعالى به بقوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} فهذا أمر إباحة لنأكل من الحلال الطيب، ومثل ذلك الكسب الطيب، واللباس الطيب، والدواء الطيب، وغير ذلك مما تعبدنا الله تعالى به لنكون مستخلفين في الأرض على منهجه الذي شرعه لنا، لنسعد في حياتنا وآخرتنا، فما شرع لنا إلا ما يصلح حياتنا، ويوصلنا لمرضاته في دنيانا وآخرتنا.
ونلاحظ أن الآية الكريمة لم تقتصر على الحلال، بل أضافت إليه وصف الطيب، ليكون أنفع للإنسان، وذلك هو الذي تُعنى به الشريعة الإسلامية أيَّما عناية كما في الحديث الصحيح «أيها الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً، إني بما تعملون عليم} وقال: {يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء، يا ربُّ، يا ربُّ، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذِّي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!» وهذا استفهام تعجبي، والمعنى: لا يستجاب له، مع أنه مسافر، وشأن المسافر أن يكون مستجاب الدعوة، فلم ينفعه الدعاء؛ لأنه قد قطع أواصر التواصل مع الحق سبحانه بخروجه عن منهج شرعه بأكل الحرام ولبس الحرام.
ولم يقتصر الأمر على مثل هذا الخبر الذي يحمل ترغيباً وترهيباً في آن، بل الترهيب المباشر كان حاضراً لمن تجنب هذا الهدي القرآني والنبوي كحديث «لا يربو لحمٌ نبت من سُحت إلا كانت النارُ أولى به» ذلك لأن الجسم الذي ينبت من غير الحلال لجنسه كالميتة والخمر والخنزير، أو وصفه كالمسروق والمغصوب أو المشترى بثمن حرام، هذا لجسم لا يكون مقبلاً على الطاعة، وإن أقبل عليها بظاهره فإن قلبه لا يستحضرها، ولا يكون متوجهاً لها.
غير أن تعقيدات الحياة وتطورها وكثرة خيراتها، وكون كثير من أسباب معيشتنا هي بيد غيرنا، الذين ليس لديهم ثقافة الحلال والحرام، والطيب والخبيث بالشكل الذي نحن عليه، هذا الحال جعلنا نعيش في قلقٍ بالغ، فنحن بين حاجاتنا التي قد ترى في المتاح لها بغية، وبين مراعاة مرضاة ربنا سبحانه، بالامتثال لقيود شريعته التي نؤمن جازمين أن فيها صلاح حالنا ومآلنا، وقليلٌ منا من يكبح جماح نفسه للتقيد بقيود الشرع فيضحي برغباته.
فهل من حلٍ للتوفيق بين رغبات النفس وقيود الشرع؟
الجواب: نعم، ولعله يسيرٌ جداً إذا وجدت الإرادة، لاسيما في الطعام والشراب، وأخص بالذكر «ذبائح الأنعام والطيور» التي تستورد مجتمعاتُنا الكثيرَ منها من الخارج، وهي مصحوبةٌ بشكوك لدى المستهلكين الذين يلاحظون أوامر ربهم بتحري الحلال، ولعل من اليسير جداً تحقيق رغبة المسلمين بشيئين:
الأول: بإلزام من يورِّد لنا منتجاتِه الحيوانية والغذائية بمواصفتنا التي نضعها وتحقق مبدأ الحلال، ابتداء من الحظيرة حتى المائدة، ومثل هذا يتحقق إن طلبناه، فإن الشركات رهينة العرض والطلب، بدليل أن من يُملي شروطه يجد من يستجيب له.
الثاني: العمل الجاد لإيجاد البدائل المحلية أو غير المحلية التي لديها مرونةٌ بتحقيق رغبات مبتغي الحلال الطيب من المسلمين وغيرهم، فالمسلمون اليوم يشكلون أكثرية بشرية هائلة، فهم اليوم نحو ملياري مسلم من أصل سبعة مليارات إنسان، فضلاً عن أن الحلال الطيب ليس طلب المسلمين فقط، بل هو طلب كل ذي فطرة سوية.
إن سوق الحلال اليوم سوقٌ ضخمة، تتجاوز ترليونَي دولار، وكل صانع وتاجر يحرص أن يكون له نصيب من هذه السوق التي تنمو كل يوم، فلنكن نحن الأحرصَ على تنميتها والمستفيدين منها أولاً، لتحقيق رغبات أمتنا الإسلامية، ومكاسبنا المادية على حد سواء، فبركة الحلال لا تتوقف عند الكسب، بل تتعدى للنماء والعافية في النفس والمال والولد.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.