في التأمّل والتملّك وقصيدة «الهايكو» اليابانية
قصيدة الهايكو هي شكل تقليدي من الشعر الياباني؛ وهي مكونة من ثلاثة أسطر غير مقفاة مع 17 مقطعاً، 5-7-5. تستخدم اللغة الحسية لالتقاط شعور أو صورة غالباً ما تكون مستوحاة من عنصر من الطبيعة أو لحظة جمال أو تجربة مؤثرة. طوّر الشعراء اليابانيون قصيدة الهايكو التي ارتبطت ببوذية الزن، وتم اعتمادها شكلاً وتكييفها موضوعاً في كل لغة حديثة تقريباً، بما في ذلك لغتنا العربية.
الموضوعات الشائعة المكتوبة في الهايكو هي الطبيعة والنفس البشرية. وسر كتابة قصيدة هايكو رائعة هو أن يكون الشاعر متيقظاً لكل نواحي الجمال في الطبيعة. تركز قصيدة الهايكو تقليدياً على التفاصيل التي تتعلق بحالة الإنسان الذي يتأمل وينقل شعوراً بما يرى دون استخدام أي أداة للتقييم أو التحليل. عندما ترى أو تلاحظ شيئاً ما يجعلك تريد أن تقول للآخر: «انظر إلى ذلك» فقد تكون التجربة مناسبة تماماً للهايكو.
استخدم الشعراء اليابانيون تقليدياً الهايكو لالتقاط صورة طبيعية عابرة وتقطيرها، مثل قفز ضفدعة في بحيرة، أو سقوط المطر على أوراق الشجر، أو انحناء زهرة في مهب ريح عاتية.
قد يذهب الكثير من الشعراء في نزهات لمجرد إيجاد مصدر إلهام جديد لشعرهم. كمقدمة لفهم الاختلاف بين نظرتين مختلفتين لجمال الطبيعة، اسمحوا لي أن أستخدم كتوضيح قصيدتين عن نزهة شاعرين مختلفين زماناً ومكاناً: الأولى هي قصيدة هايكو للشاعر الياباني باشو (1644-1694)، والأخرى للشاعر الإنجليزي لورد تينيسون (1809- 1892). يصف كل شاعر تجربة مماثلة: رد فعله تجاه زهرة يراها أثناء المشي.
الفرق مذهل. يتفاعل تينيسون مع الزهرة برغبته في الحصول عليها. إنه يرغب في أن «يقطف» و«يقتلع» و«يمتلك»، وينهي قصيدته بتكهنات فكرية حول الوظيفة المحتملة للزهرة، وهي بالنسبة له الحصول على نظرة ثاقبة في طبيعة وقدرة الخالق وسمو الإنسان المخلوق المتأمّل لجمال الطبيعة. لكن، وا أسفاه نرى الإنسان وقد تملكته نهمة الامتلاك هنا يقتل الزهرة نفسها. تينيسون، كما نراه في القصيدة، يمكن مقارنته بالعالم الغربي الذي يبحث عن الحقيقة العلمية عن طريق تقطيع أوصال الحياة وتشريح أجسام الكائنات الحية.
كان رد فعل باشو تجاه الزهرة مختلفاً تماماً. إنه يريد أن يلتقطها. إنه يقترب منها ولكن لا يلمسها. يمكننا أن نتخيل المشهد هكذا: كان باشو يسير على طول طريق ريفي عندما لاحظ شيئاً مهملاً اقترب منه، وألقى نظرة فاحصة عليه، فوجد أنه ليس أكثر من نبتة برية، إلى حد ما تافهة لا يلتفت إليها أحد من المارة. هذه حقيقة واضحة مكتوبة في القصيدة التي تنتهي بمقطعين يمكن اعتبارهما ما يسميه اليابانيون «كانا»، وهي علامة من علامات الترقيم ترتبط بشكل متكرر باسم أو صفة أو ظرف وتدل على شعور بالإعجاب أو الثناء أو الحزن أو الفرح، يمكننا أن نعتبرها مقابلاً لعلامة التعجب (!) واعتبار أن كلمات الهايكو الحالي تنتهي بهذه العلامة.
يبدو أن تينيسون يحتاج إلى امتلاك الزهرة من أجل فهم الناس والطبيعة، وبامتلاكها، فإن الزهرة تتلف. على النقيض نجد أنّ ما يريده باشو هو أن ينظر ويتأمل، ليس فقط أن ينظر إلى الزهرة، بل أن يتّحد معها ممّا يستوجب أن يدعها تعيش. يتداخل جمال الزهرة المتأمَّلة (بفتح الميم) والإنسان المتأمِّل (بكسر الميم) لتفيض الطبيعة حولنا جمالاً ويزداد عالمنا إشراقاً.
ما يريده باشو هو أن ينظر ويتأمل، ليس فقط أن ينظر إلى الزهرة، بل أن يتّحد معها ممّا يستوجب أن يدعها تعيش.
باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.