﴿إنَّ الإنسانَ لفي خسرٍ﴾
أقسم الله جلَّ ذكره بالعصر، وهو الدهر الذي عاشه النبي عليه الصلاة والسلام، أو هو عموم الدهر، على أن هذا الإنسان الذي خلقه الله مكرَّماً وفي أحسن تقويم؛ سيختار لنفسه الخسران والهوان، فقال جلَّ شأنُه: ﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ﴾، وهو قسم عظيم، فيه من التهويل والتخويف ما تنخلع لهوله الأفئدة، ليلفت الأنظار إليه فيحذروا من الوقوع في مدلوله، كما قال المفسرون: «إن تنكير (خسر) يفيد التعظيم والتعميم في مقام التهويل وفي سياق القسم، وهو تعبير عن سوء العاقبة لمن يظن لنفسه عاقبةً حسنة، وتلك هي العاقبة الدائمة، وهي عاقبة الإنسان في آخرته من نعيم أو عذاب.
ومجيء هذا الخبر على العموم، مع تأكيده بالقسم وحرف التوكيد في جوابه، يفيد التهويل والإنذار بالحالة المحيطة بمعظم الناس». اهـ
وإنما يختار الإنسان لنفسه الخسران لما تطرأ عليه من مؤثرات تُفتنه في دينه ودنياه، وأكبر هذه المؤثرات هو الشيطان الرجيم، الذي أخذ على نفسه العهد بإغواء بني آدم، كما قال سبحانه على لسانه: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾، وهو قسم تحدٍّ للخالق سبحانه، حمله عليه ما سمعه من إنظار الله له إلى يوم يبعثون، فلما أمن العقاب العاجل أساء الأدب، لذلك هو يتمكن من حمل الإنسان على أن يخسر الدنيا والآخرة خسراناً مبيناً.
ولقد تطور خسران الإنسان من الكفر والإلحاد إلى التَّنكر لفطرته الخِلقية وكرامته الإنسانية، فيعتدي على هذه الفطرة بالتغيير الفسيولوجي، والعبث بكرامة الإنسان الذي خلقه الله ذكراً وأنثى، ليبقى النوع الإنساني، كما هو الحال في سائر الخليقة التي خلقها الله تعالى زوجين اثنين، حتى من النبات وغير ذلك، فهو سبحانه ﴿أحسنَ كلَّ شيءٍ خلَقه﴾، بل إن ما يصنعه البشر من آلات فيزيائية، فإنها تتكون من سالب وموجب.
والأنكرُ والأقذر هو الانحراف الفطري من إتيان الذُّكران من العالمين، وترك ما خلق الله لهم من أزواج، أو ترك النساء للذكور اكتفاءً بأمثالهن، وهو إجرام بحق الجنس الإنساني الذي يوشك أن يتفانى إذا استشرت هذه الخبائث التي تسر الشيطان وتغضب الرحمن.
إن الفطرة الإنسانية تنأى بنفسها عن هذا العبث السيئ الذكر، فضلاً عن أن هذا مما تداعت الشرائع على نُكرانه، ولم تعرفه البشرية إلا في قوم ذكرهم الله تعالى في كتابه ليبين ما حاق بهم من عذاب أليم، إذ خسف بهم الأرض، وجعل عاليها سافلها، وأمطر عليهم حجارة من سجيل، كما قال سبحانه: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾، فلم يكتف بعذاب واحد حتى صب عليه سوط عذاب من ثلاثة أنواع، وهو عذاب لم يعذبه أحداً من العالمين.
ولا ريب أن من سار على درب الهالكين هلك؛ لأنها سنة الله التي لا تتبدل، وذلك ما حذر منه نبينا عليه الصلاة والسلام بقوله: «ولا ظهرت فيهم الفاحشةُ إلا فشا فيهم الموت»، وفي حديث آخر «إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمَّهم الله بعذاب».
ولا ينجو من ذلك إلا من استثناهم الله تعالى بقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾، وهذا هو واجب المؤمنين اليوم، بأن يتبرأوا من هذا الانحراف والمنكر المقيت، وأن يضرعوا إلى ربهم بعدم المؤاخذة بما يفعله السفهاء، وعليهم مع ذلك القيام بواجب التواصي بالحق، وهو التمسك بالدين وحماية القيم، ومنع تسرب الرذائل الخُلقية إلى أو طاننا على الأقل، إن لم نقدر على إنكارها في المحافل الدولية، والصبر على ديننا وقيمنا والثبات عليها، حتى لا يحلَّ بنا الخسران الذي يختاره لنفسه من أغواه الشيطان، وحرفه عن فطرة الإنسان.
ومن أكبر الأعمال الصالحات؛ التوبةُ من الذنوب لمقترفيها، فمن تحقق فيه وصف الإيمان ولم يعمل السيئات، أو عملها وتاب منها فقد حسنت عاقبة أمره، وأما من لم يعمل الصالحات ولم يتب من سيئاته فقد تحقق فيه حكم المستثنى منه وهو الخسران، الذي أقسم الله تعالى أن يناله كل من حاد عن جادة شرعه، وهو ما يجري في هذا الانحراف الفطري والخُلقي، عياذاً بالله تعالى.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.