الحجُّ عَرفة
يوم عرفةَ يومٌ عظيم عند الله جلَّ ذكره، وعند المؤمنين، يومٌ يجمع الله فيه من اختارهم لبساط ملكه، وحضرة قدسه، وحرَمه الآمن، ومشاعره العظام، ليبثُّوا إليه الشَّكوى، ويرفعوا إليه النَّجوى، وينادونه بلسان الذُّل ودموع الخشية، يدعونه رغَباً ورَهَبا، وهم من خشيته مشفقون، إنه اليوم الذي أقسم الله تعالى به بقوله: {وشاهدٍ ومشهود}، وهو يوم الجمعة ويوم عرفة، وهو يومنا هذا الذي اجتمع فيه الشاهد والمشهود لمن وقف هذا الموقف العظيم الذي تسكب فيه العبرات، وتقال فيه العثرات، والذي يتجلى فيه ربُّنا سبحانه على أهل الموقف، فلا يبرحون حتى يقول لهم الرب سبحانه: انصرفوا فقد غفرتُ لكم كما ورد: «إن الله عز وجل ينزل إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل عرفة ملائكتَه فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شُعثاً غُبرا، يا أهل عرفة قد غفرت لكم».
هذا هو يوم التجلي الإلهي على عباده المؤمنين، من كان منهم في ذلك المشهد العظيم، ومن تعرَّض لنفحاته وهو في داره ومستقره، فإن فضل هذا اليوم يدركه ويناله كما ورد: «أفضلُ الدعاء دعاءُ يوم عرفة ، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له»، فهو دعاءٌ في اليوم عموماً وليس في المكان خصوصاً، فمن اشتغل فيه بذكر الله وشكره مسألةً أو ثناءً أو استغفاراً أو تلاوةً أو صلاةً وسلاماً على رسول الله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فإنه يدرك ذلكم الفضل العظيم، إنه يومٌ يرضي الرحمن جل ذكره، ويغضب الشيطان الذي يغوي بني آدم ويضلهم عن سواء السبيل كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما رُئي إبليسُ يوماً هو فيه أصغرُ ولا أحقرُ ولا أدحرُ ولا أغيظُ من يوم عرفة، وذلك مما يَرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر».
إنه هذا اليوم المبارك - يوم الجمعة ويوم عرفة - الذي أكمل الله تعالى فيه الدين، وأتم به النعمة، اليوم الذي وقف فيه النبي عليه الصلاة والسلام موقفه العظيم وقال عنه: «الحجُّ عرفة»، أي هو اليوم الأعظم في نسك الحج الذي يفوت الحج بفواته، ويدرك بإدراكه، وهو اليوم الذي خطب فيه النبي عليه الصلاة والسلام خطبته العظيمة، والتي بين فيها أصول الدين في التوحيد والعبادات، والدنيا في حقوق الأفراد والجماعات، وأصول الحكم والسياسات، اليوم الذي ودَّع فيه النبي عليه الصلاة والسلام أُمَّتَه بعد أن تركهم على محجة بيضاء ليلها كنهارها، فلا يزيغ عنها إلا هالك، اليوم الذي أشهد فيه النبي عليه الصلاة والسلام أمَّته ورَبَّه على البلاغ، وحثهم فيه على أن لا يرجعوا بعده كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض، اليوم الذي وضع فيه ربا الجاهلية الذي يفتك بالمجتمعات، ويذهب بحقوق الأخوة الإيمانية والإنسانية، اليوم الذي جعل فيه الناس سواسية في الحقوق والواجبات لا تفاوت بينهم إلا بالتقوى، اليوم الذي وضع فيه النخوات الجاهلية واستبدلها بعز الإسلام، اليوم الذي عظَّم فيه شأن الدماء والأموال والأعراض حتى تبقى مصونة، فيستتب الأمن المجتمعي وتقوم فيه العدالة الربانية بين العباد، اليوم الذي تجلَّى فيه الجلال الرباني والجمال النبوي بأبهى صُوره، وبقي ذلكم الجلال والجمال كلما عاد على الأمة، لاسيما إذا وافق يوم حجة النبي عليه الصلاة والسلام كهذا العام، وما من مسلم على وجه الأرض إلا وهو يحمل في جوانحه شيئاً من ذلكم الجلال والجمال، فيكون له نصيب من خيره إذا هو تقرب إلى الله تعالى فيه بما يُحب من صيام أو صدقة أو ذكر أو صلة رحم، أو أدخل فيه سروراً على مسلم، أو كف أذاه عنهم في أقل الأحوال فإن له بذلك صدقة.
هذا هو يوم عرفة الذي تعارفت فيه القلوب، وتعلقت بعلام الغيوب، تسأله فيه المحبوب المرغوب، وتستعيذ فيه من المرهوب، فمن كان كذلك فإن له من فضل الله ما هو موعود.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا فيه من المقبولين، وأن يعيده على الجميع مع العفو والعافية والمعافاة الدائمة.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.