من ألواح الطين إلى السلاسل
منذ أكثر من خمسة آلاف عام، هناك في سومر جنوب العراق، بدأت الحكاية وخطّت البشرية نقوشها المسمارية الأولى على مجموعة من الألواح الطينية التي تعتبر الدليل الأقدم على تسجيل المعرفة بهدف نقلها وتبادلها والحفاظ عليها؛ وكذلك أيضاً كانت الكتابتان الهيروغليفية والهيراطيقية للحضارة المصرية القديمة، واللتان زيّنتا جدران المعابد والمدافن والقصور، بما في ذلك أوراق البردي، بشتى أنواع النصوص الإدارية والاقتصادية والدينية؛ إلا أن الممارسات الأولى لحفظ المعرفة بطريقة منظمة تمهيداً لاسترجاعها يعود إلى نحو 4500 عام، وتحديداً في موقع إيبلا شمال غرب سورية، حيث زوّدت الألواح الطينية المكتشفة هناك الباحثين برؤى جديدة حول الممارسات الأولى لعمليات التصنيف والفهرسة، لاسيما أن تلك الميزات كانت غائبة عن المكتشفات السومرية والمصرية القديمة والتي سبقتها بحصة من الزمان؛ ثم ظهرت بعد ذلك مكتبة آشور بانيبال الآشورية في القرن السابع قبل الميلاد، والتي تعدّ المكتبة الأولى للبشرية بآلاف من الألواح والرُقُم الطينية التي اختزنت معارف الأولين مرتبةً حسب الأبواب والموضوعات.
وتتابعت الرحلة عبر العصور، وظهرت المكتبات الأخرى تباعاً ومن ثم الموسوعات والمعاجم، وتطورت معها وسائل الحفظ والتخزين، فمن الجدران والألواح الطينية إلى ورق البردي والمخطوطات، ثم الطباعة التي دوّنت المعرفة في مجلدات وكتب، إلى أن جاء عصر الكهرباء ومُستهلّ التقنيات، والذي أتانا بالبطاقات المثقبة والأشرطة الممغنطة والأسطوانات، وصولاً إلى يومنا هذا الذي أضحت البيانات فيه تُخزّن على وسائط رقمية وأقراص تنتشر في شتى البقاع والآفاق.
والواقع هو أن تلك البيانات في تزايد أسيّ مستمر ومتسارع، فوفقاً لموقع «ستاتيستا» (Statista) أنتج البشر ما يقارب 2 زيتابايت من البيانات بحلول عام 2010، ثم قفزوا إلى 79 زيتابايت في عام 2021؛ وإذا علمتم أن الزيتابايت يعادل مليار تيرابايت، وأن حجم تلك البيانات سيتضاعف وصولاً إلى 181 زيتابايت في عام 2025، فستتوصلون إلى أن تخزين بيانات الغد هو أحد التحديات الرئيسة التي تواجه عالم اليوم؛ فوحدات التخزين الحالية وإن كانت تستعين بمنتهى التقنيات فإنها تعاني مشكلات عدة؛ فهي قصيرة العمر ومحدودة السعة، كما أنها عرضة للتلف السريع وبأشكال متعددة من العوامل التي قد تمسحها عن بكرة أبيها.
ولأن العلم يفتح آفاقاً بعد آفاق، فهو يراها طُرُزاً عتيقة تحاول التسابق في مضمار لا حدود له ولا نهاية؛ وقد آن لها أن تترجل وتفسح المجال أمام مفهوم جديد تماماً معتمد على الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسجين، أو ما يعرف باسم «DNA»، وإذا كانت حواسيب اليوم تُخزّن البيانات الثنائية مغناطيسياً أو على أشباه الموصلات؛ فإن عملية التخزين في الحمض النووي تتم بشكل مغاير يكون الترميز فيه إلى سلاسل طويلة من «النوكليوتيدات»، وهي جزيئات عضوية تعد الوحدات الأساسية في بنية الـ«DNA».
إن هذه التقنية الواعدة قادرة على تخزين جميع بيانات العالم في مساحة لا تتعدى الغرفة الواحدة، وعلى تحمّل الحرارة والبرودة ومختلف الظروف أيضاً، كما أن البيانات المخزّنة فيها يمكن أن تدوم ما بين 700 ألف ومليون سنة، وهو ما يتجاوز بكثير عمر أي تقنية حالية للتخزين.
نعم مازال هناك الكثير من العقبات، أهمها الكلفة العالية والبطء في كتابة البيانات واسترجاعها، ما يجعل هذه الطريقة حالياً تفيد في الأرشفة طويلة الأمد؛ بيد أن الغد قادم بما يحمله من ابتكارات وحلول، ولابد من يوم تصبح فيه سريعة وفعالة وفي متناول الجميع.
مؤسس سهيل للحلول الذكية
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.