شرق.. غرب
بجماليون وعبدالحليم حافظ
في سنوات المراهقة كنّا من هواة الاستماع إلى أغاني عبدالحليم حافظ، خصوصاً الأغاني العاطفية التي تتردد في جنباتها شكواه من آلام الحب غير المتبادل، أو من حبيبة تتمنع عليه ولا تعيره الاهتمام الكافي.
في فيلم «الوسادة الخالية» (1957)، يغني عبدالحليم «مشغول وحياتك»، تتشّوق سميحة، محبوبته الجميلة (لبنى عبدالعزيز) لرؤيته ويرد بقوله إنه مشغول. إذا كنت تتساءل لماذا هو مشغول، سيخبرك لاحقاً في الأغنية أنه مشغول لأنه عنده موعد غرامي مع صورتها ويستعد للوقوف أمام الصورة طول الليل يحدّق فيها:
/ أنا عندي معاد مع صورة.. للصبح أسهر قدامها / ياما عشت ليالي كتيرة.. فرحان بيها بكلمها /
يبدو أنه يفضّل التحديق في صورة حبيبة بدلاً من أن يكون مع حبيبة من لحم ودم، لأن الصورة ستبقي على جمال الحبيبة ورقّة الحبيبة التي ستظل ترنو إليه بعيونها الرائعة ولن تقدم على مخاصمته لأي سبب أو على لومه على أي تقصير:
/وعنيها الحلوة تكلمني.. ولا مرة تفكّر تخاصمني / بالصورة الغالية.. أنا مشغول../ مشغول وحياتك على طول /
ويقول عبدالوهاب في أغنية «خايف أقول إللي في قلبي» (1929): /أنا زارني طيفك في منامي قبل ما حبّك / طمّعني بالوصل وسابني وأنا مشغول بك /
هذا الميل لتفضيل الصورة على الأصل والطيف على الجسد والمثالي على المادي ليس مقصوراً على الثقافة العربية، فنحن نجده أيضاً في الميثولوجيا والآداب الغربية، ولكن بأشكال وبمعالجات مختلفة. وخير مثال على هذا هو أسطورة بجماليون والأعمال الأدبية المستوحاة منها. فمن هو بجماليون؟
تصوّره الأساطير اليونانية ملكاً ونحاتاً، ويقدمه لنا الشاعر الروماني أوفيد (ت. 17 م) Ovid في سرده الشعري المعنون The (Metamorphoses )التحولات، ترجمة ثروت عكاشة بعنوان «مسخ الكائنات»)، نحاتاً يصنع تمثالاً لامرأة ويجدها غاية في الجمال لدرجة أنه يقع في حبها. يقبّل بجماليون التمثال ويهتم به، ويقدّم له هدايا متنوّعة، ويصنع سريراً فخماً له. مع مرور الوقت، جاء يوم عيد فينوس، الهة الجمال، وقدم بجماليون القرابين عند مذبحها. كان خائفاً جداً من الاعتراف برغبته في أن تدبّ الحياة في التمثال العاجي. ولما عاد إلى المنزل قبّل تمثاله العاجي فوجد أن العاج فقد صلابته. لقد حقّقت فينوس رغبة بجماليون. تزوج بجماليون من التمثال العاجي، وعاشا معاً وأنجبا ولداً وبنتاً.
ولتوفيق الحكيم مسرحية مستوحاة من الأسطورة اليونانية هي «بجماليون» (1940) وهي مسرحية فكرية حول الصراع بين الحياة والفن، صراع بين جالاتيا التمثال الذي صنعه بيده وجلاتيا الزوجة التي منحتها فينوس الحياة، جالاتيا التمثال بجمالها الباقي، وجالاتيا الزوجة بطيبتها وجمالها الفاني، وبجماليون محتار لا يستطيع أن يعيش مع حبيبته ولا أن يراها تكنس المنزل وآثار العمر بادية عليها، ويطلب من فينوس أن تعيدها تمثالاً.
الصراع هنا هو بين الحياة بنقصها والفن بكماله وعلوّه. ينهي عبدالحليم أغنيته بفكرة لافتة تفضّل الصورة (المقابل للفن) على حبيبته سميحة / الأصل (المقابل للحياة): / أنا مشغول عنك بيكى / وما ليش إلا أنت وسيرتك / قلبي يكلمني عليكي / وأنا أكلم عنك صورتك / وخيالك دايماً فى خيالي / يا غرامي ويا حبي الغالي /
«مشغول عنّك بيكي»؟ أليس غريباً أمر هذا الهوس بالصورة وليس الأصل؟ بطيف الحبيبة وليس الحبيبة نفسها كإنسانة حقيقية، حية تتنفس وتنفعل؟
• الميل لتفضيل الصورة على الأصل والطيف على الجسد والمثالي على المادي ليس مقصوراً على الثقافة العربية.
باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.