الشكسبيريون الجُدد
في مكان لا زمان له جرى اجتماع إدارة لإحدى الشركات، وقد كنت مدعواً بصفتي ممن يُطلب حضورهم لمناقشة قضايا الشركة تماشياً مع الرؤى والتطلعات، وبالفعل أتيت حسب الموعد وتصفحت ما ورد في جدول الأعمال، لأجد فيه قضية مُلحّة طال أمدها وباتت تستوجب الحل فوراً ولا تتحمل التأجيلات.
ولأنها كذلك فقد حضر الجميع دون استثناء، والتقيت معهم بالردهة أثناء توجهنا لقاعة الاجتماعات، وبما أننا عربٌ كلنا كان سلامنا باللغة العربية وكانت التحيات، وكذلك كانت التعليقات الطريفة والأحاديث والمزاح والنكات، ثم وصلنا بعد ذلك واتخذنا مجالسنا استعداداً لبدء الاجتماع، وقد بدأ فعلاً على الوعد إنما مع تغير الحالة والسياق، وخاصة الألسن التي ما لبثت أن تحولت فجأة إلى اللغة الإنجليزية بمختلف لهجاتها ولكناتها، وكأن الحاضرين اليوم كانوا من غير الواصلين.
على كل حال، تبادلنا الترحيب مرة أخرى واستعرضنا جدول الأعمال، ثم بدأ الحاضرون مداخلاتهم القيّمة لتهتز معها القاعة على وقع المفردات، سجالات وحوارات إنجليزية من الزمن الغابر لا يفهمها سوى التراجم وأهل التأويلات، ثم بدأ بعدها التباري المحموم في سرد التعابير والصياغات، إلى الدرجة التي خفت فيها أن ينهال عليّ أحدهم بسيل منها لا أفهمه فأخرّ صريعاً للكلمات.
وقد كان الواحد منهم يتفادى أن يزلق بكلمة عربية خشية أن يُظن أنه من غير العارفين، ثم يعمد إلى إلقاء التسميات المختصرة التي لا يعرف معناها سواه، وكأننا متصلون بالشبكة العالمية نتلقى الشرح آنياً وكذلك التعليلات، واللافت أنه كلما تعقّدت الكلمات وصَعُب معناها كلما أومأ الجميع دلالة على منتهى الفهم والاستيعاب، حتى قلت في نفسي أنا الملوم ويا ليتني جلبت معي أحد المعاجم لأستعين به أو قاموساً متعدد اللغات، أو ليتني جئت بآلة للتسجيل تحفظ الأقوال فأدرسها لاحقاً وأطور نفسي في عالم المصطلحات.
عموماً سار الاجتماع بشكل جميل غير معقد، ولم يترك المتواجدون فرصة وإلا وأكدوا فيها أن لا شيء مطلقاً يمثل تحدياً لهم، وأنهم قادرون على قهر كل الصعوبات، فتوالت قصص النجاح تباعاً وسُردت معها أهم التجارب وأفضل الأعمال، ثم تكلم المدير شارحاً استراتيجياته القادمة لتبدأ مع حديثه همسات الإعجاب وتتعالى الآهات، تلا ذلك فترة من الهدوء والتقاط الأنفاس سادت خلالها بعض الأحاديث الجانبية وكثرت معها الرنات والمكالمات، أما الشيء الوحيد الذي كان غائباً، أو يمكن مُغيّباً، هو القضية الجوهرية المطروحة والتي توارت بين ورقات جدول الأعمال وغطتها الأقلام والجوالات.
والحق يقال، فما بين هذا وذاك غالبني النعاس وانصرف ذهني عن الاجتماع، وانتقل بي الزمان بغتة إلى عصور سابقة تميزت بمثل تلك الحوارات، وبدأت التأمل بها واستذكار جميع سماتها من أحاديث وأفكار، وكيف أن وضع النظريات فيها كان أسهل بمئة مرة من اتخاذ القرارات، أو أن تجنبها وتأجيلها على الأقل هو الشيء الوحيد الذي كان يحظى بإجماع الموافقات، واستغرقت في تأملي إلى أن هزتني قهقهة مرتفعة جاءت إثر إحدى المداخلات، فاستيقظت على أصدائها لأجد أن اجتماعنا انتهى وبدأ الجميع بالانصراف مترقبين القادم من اللقاءات، وبما أنني كنت نائماً تقريباً فقد سارعت إلى السؤال خجلاً عن فحوى المداولات، وجاءتني الإجابة سريعاً بأنها كانت مثمرة جداً بيد أن اللقاء القادم هو الحاسم يقيناً ومنه كل التوقعات، وعندها فقط تملكتني الغيرة من الكاتب ومنظم الاجتماعات، فما عليه هنا سوى أن ينسخ المحضر للمرة العاشرة ويغير التواريخ محافظاً على الفقرات!
• هزتني قهقهة مرتفعة إثر إحدى المداخلات، فاستيقظت على أصدائها.. لأجد أن اجتماعنا انتهى.
مؤسس سهيل للحلول الذكية
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.