شرق.. غرب
التشظّي المعرفي في القرن الـ21
يناديني أقاربي في مصر «يا دكتور» (بفتح الدال). خلال زيارة إلى قريتي في دلتا النيل، كنت أقيم مع أقاربي وسمعتهم جارتهم ينادونني «يا دكتور» فأتت إلينا مع أطفالها المرضى وطلبت مني تشخيصهم ووصف الأدوية لهم. ابتسمت في وجهها وقلت إنني دكتور في الأدب ولست طبيباً متخصصاً في تشخيص الأمراض، فأجابتني مستنكرة: (الله! مش كلّه علام يادكتور؟).
نعم، سيدتي العزيزة؛ «كلّه علام» ولكننا الآن في القرن الـ21؛ ليست المعرفة فيه كياناً واحداً. هذا قرن التشظّي المعرفي والتخصصات الدقيقة والمعرفة المجزأة. أنا دكتور في الآداب ونوع من المعرفة يسمى العلوم الإنسانية. أنا لست متخصصاً في أي مجال آخر من مجالات المعرفة. وأنت، يا جارتنا الطيبة، قد لا تكونين على علم بذلك ولكن مفهومك للمعرفة يعود إلى قرون مضت ينطبق على رجل مثل أبوعلي بن سينا الذي كان فيلسوفاً وطبيباً وكاتباً للرسائل وشاعراً ومتذوقاً للفنون ويكتب عن الموسيقى. وقد ينطبق على رجل من عصر النهضة الأوروبية مثل ليونارد دافنشي الذي كان رساماً وفيلسوفاً ومهندساً ومخترعاً. كانت تلك هي الأوقات التي كانت المعرفة فيها اندماجاً لمجالات وأنواع مختلفة من العلوم والفنون.
كنت أفكّر في هذه المحادثة مع سيدة القرية بينما كنت أناقش مع بعض الأصدقاء في القاهرة الكتاب المثير للتفكير، 21 Lessons for the 21st Century (21 درساً للقرن الـ21)، للمؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري. الكتاب عبارة عن مزيج من المعرفة المستمدة من التاريخ، وعلم الآثار، وعلم الحيوان، وتاريخ الأديان، والطب، والذكاء الاصطناعي، وما إلى ذلك.
نقرأ في الكتاب أنّ القرن الـ21 سيجلب تغييرات وتحديات لم يواجهها أي إنسان من قبل. تعمل العولمة والابتكارات التكنولوجية على تغيير هياكل المجتمعات في جميع أنحاء العالم - والتغييرات تحدث بسرعة. إذا لم يواجه الناس هذه التحديات ولم يتعاونوا في تشكيل المستقبل، سيتم «أتمتة» وظائف فئات عدة من العمال والأتمتة هي مصطلح معرّب للكلمة الإنجليزية automation أي التشغيل الآلي وقد يفقد بعض الناس قدرتهم على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم. وفي الكتاب يسلط هراري الضوء على أكبر التحديات في العالم الحديث، ويقدم نصائح بشأن فهم مثل هذه الأوقات الانتقالية وتجاوزها.
فهل تعلم مثلاً أن الخوارزميات مثل توصيات أفلام Netflix تفترض أنك تفتقد الثقة في حكمك، وأنك في حاجة إلى إرشاد وتوجيه في اختيار الأفلام؟ وهل تعلم أن التحولات الكبرى لعملية الأتمتة في القرن الـ21 ستهدد وظائف البشر في كل صناعة؟
ويشير الكتاب الى أنّ الثورات الموازية في مجال تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الحيوية تعمل على تغيير المجتمعات من خلال جعل التكنولوجيا معقدة للغاية، بحيث يتعذر على معظم الناس فهمها ومعرفة كيفية تغيير الآلات لسوق العمل وتأثير الخوارزميات في طريقة تفكيرهم وتسوّقهم وتصويتهم في الانتخابات. ولكن التحول الأخطر يظهر في الإمكانات المتاحة الآن للبشر في تغيير أجسادهم، ففي حين غيرّت الابتكارات السابقة العالم الخارجي - على سبيل المثال، من خلال بناء السدود - يتم الآن تطوير تكنولوجيا جديدة لتغيير عوالم البشر الداخلية، مثل غرز جهاز تنظيم دقات القلب داخل صدر الإنسان أو إبطاء عملية الشيخوخة من خلال الهندسة الحيوية.
كتاب مشوّق يمزج المعارف المستقاة من العلوم المتنوعة ويذكرني بالجارة الطيبة وأطفالها المرضى وتأكيدها أنّ المعرفة كل لا يتجزّأ.
• إذا لم يواجه الناس التحديات ولم يتعاونوا في تشكيل المستقبل، سيتم «أتمتة» وظائف فئات عدة وقد يفقد بعض الناس قدرتهم على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم.
باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.