وُلِد الهدى
ما أجمل قولك يا أمير شعراء زمانك:
وُلد الهدى فالكائناتُ ضياءُ* وفمُ الزمان تبسُّمٌ وثناءُ
الروحُ والملأُ الملائك حولَه* للدين والدنيا به بُشَراءُ
والوحي يقطر سلْسلاً من سلْسلٍ* واللوحُ والقلم البديع رِواءُ!!
فإنك لم تُسبق لمثل هذا التعبير المُفعم بالتوقير لسيد البشر عليه صلوات الله وسلامه، فإنه تعبيرٌ صادقٌ وليس من خيال الشعراء، وبُعد أنظارهم، ورهافة أذهانهم، بل إنه تعبيرٌ عن حقيقة لا تخفى، وقد خبَّأها لك القدر لتكون إحدى محاسنك الكبيرة في الأدب المتعلق بالجناب النبوي.
نعم لم يسبقك أحدٌ إلا أن يكون العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه، حين أنشد ابن أخيه سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم، متذكراً نعمة الله تعالى بولادته، فكان من قصيدته قولُه:
وأنتَ لما وُلدتَّ أشرقت الأرضُ وضاءت بنورك الأفقُ
فنحن في الضياء وفي النور وسُبْل الرشاد نخترقُ.
وأقرَّه النبي عليه الصلاة والسلام على هذا الوصف الحقيقي لولادته، وما جرى فيها من آيات بينات.
فكلا القولين المباركين هو ما يستشعره المسلمون في شهر ولادة الهادي البشير صلى الله عليه وسلم، حيث يذكرهم الزمنُ ما حلَّ فيه من خير وبركة على الأمة بولادة هاديها ودالِّها على الله تعالى، ومُخرج من شاء الله له الخير من الظلمات إلى النور، وذلك ما يرشد إليه قول الله تعالى: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
إن ذكرى ولادة سيد الأنام محمد بن عبدالله التي اهتزت لها الدنيا والكون، وآذن الحق سبحانه عباده بتغير حالهم بسبب هذه الولادة، هي التي يراها المسلمون نعمةً وأيَّ نعمة؟! فهي التي كانت فاتحة النور الإلهي لخليقته ببعث رسول من عنده، يهدي إلى الحق وإلى صراط مستقيم، تكون بعثته نعمةً، ورسالته رحمةً، وشريعته هدايةً ونوراً، هذه الولادة ليست ولادةً عاديةً، بل إنها ولادة أمة كانت غارقةً في مستنقع الوثنية ورذائل الأخلاق، فلا بدع أن يستشعر المسلم مثل ذلك فيحمد الله تعالى على هذه النعمة العظيمة، فيعبر عنها بما يستطيع التعبير عنه من ثناءٍ صادق، أو صدقات، أو أهازيج شعرية، أو غير ذلك مما يعده الناس تعبيراً عن فرحة بهذه النعمة، فكل ذلك مما يشير إليه قول الحق سبحانه: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}.
ولئن كان النبي عليه الصلاة والسلام يعبر عن ذلك بصيام يوم ولادته شكراً لله، فإن التعبير عن ذلك لا يقتصر على الصيام، بل قد يكون بما كان يعجب النبي عليه الصلاة والسلام من المدح والثناء، أو بما حث عليه من إطعام الطعام وإكرام الضيفان، أو بقراءة سيرته عليه الصلاة والسلام التي هي جزء من سنته؛ ليتجدد لاعجُ الشوق إلى رؤيته، وتلهج الألسن بالصلاة والسلام عليه مما هو من أقرب القرب عند الله تعالى.
ولئن اجتمعت هذه الأمور كلها في ما سمي بالمولد فنِعمَّا ذلك، كما ارتآه جمهرة أهل الإسلام من محدثين وفقهاء وغيرهم في كل عصر ومصر، فإن كل ذلك هو مما يقوي آصرة المحبة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي الخصلة التي توجب لصاحبها مرافقته في الجنة، وهي البُغية التي يتمناها المسلم.
إن ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحتاج إلى استدلال معمَّق، بل تحتاج حباً يتدفق، يكون سبباً لإيمانٍ يتحقق، كما أرشد لذلك قوله عليه والصلاة والسلام: «لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والده وولده والناس أجمعين»، فكل ما يذكي محبته عليه الصلاة والسلام، فهو من الوسائل التي تحقق المقاصد.
ولئن اجتمعت هذه الأمور كلها في ما سمي بالمولد فنِعمَّا ذلك.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.