جسر ثقافي بين الإمارات ومصر
يحظى التراث الثقافي بأهمية كبرى في الإمارات، فمنذ البدايات الأولى لتأسيس الدولة، كان الاهتمام بالتراث يأتي في مقدمة الأولويات، وفي عمق النشاط الثقافي، كما عدَّ التراث في الإمارات شأنًا استراتيجيًّا بامتياز، ومنصة رئيسة ترتكز إليها في علاقاتها الدولية.
وإذا دعينا إلى الحديث عن العلاقات الإماراتية المصرية في مجال التراث الثقافي، فإننا نستشهد بمعهد الشارقة للتراث بوصفه أحد الجسور الثقافية القوية بين الإمارات ومصر، وهو إحدى المؤسسات الثقافية في حكومة الشارقة، تأسس بموجب المرسوم الأميري رقم (70) لعام 2014، ليكون مركز إشعاع ثقافي وعلمي يتصف بالتميز والإبداع بما يخدم التراث الثقافي الإماراتي والعربي، انسجامًا مع رؤى وتوجيهات حضرة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة.
منذ تأسيس المعهد، برئاسة الدكتور عبدالعزيز المسلم، كان – ولا يزال - لمصر حضورًا بارزًا في مختلف برامجه وفعالياته الكبرى. ففي إطار فعاليات ملتقى الشارقة الدولي للراوي، منذ عام 2014، تم تكريم اسم المنشد أحمد التوني، وشاعر السيرة الهلالية سيد الضوي، والدكتور أحمد علي مرسي، والدكتور سميح شعلان، والدكتور محمد رجب النجار، ولاعب الأراجوز صابر المصري، والمغنية الشعبية فاطمة سرحان. كما يشارك في كل دورة من دورات الملتقى باحثون ورواة مصريون متخصصون في مختلف مجالات التراث.
أما أيام الشارقة التراثية، وهي الأحدث الثقافي الأضخم في إمارة الشارقة، فتشارك مصر كل عام بفعاليات الأيام بما تمتلكه من موروث ثري، وتتنوع المشاركات المصرية، من الجانب الفكري إلى الإعلامي، كما تشارك فرق فنية مصرية بعروضها الفولكلورية.
وضمن برنامج أسابيع التراث العالمي، أقيم في مارس عام 2016، أسبوع للتراث المصري، اشتملت فعالياته على جوانب من التراث الثقافي المصري، منها معرض للأزياء التراثية المصرية، ممثلة في حرفة "التلِّي"، وهو أحد أشكال التطريز، تستخدم المرأة فيه خيوطًا ذهبية أو فضية، أو ما شابهها، لتزين به زيَّها التراثي المحبب الذي تعده للاستخدام في مختلف المناسبات والاحتفالات الشعبية. وقد اشتهرت محافظة أسيوط، في الماضي البعيد، بهذا الفن، وتميزت نساؤها بمهارة وحرفية عالية في صناعته وإبداعه، وكان لـ "بيت التلِّي" (أسَّسه الفنان التشكيلي سعد زغلول في أسيوط) دور بارز في إحياء هذه الحرفة بعد اختفائها في أواخر النصف الأول من القرن العشرين، وتنمية صناعتها في أسيوط ومناطق أخرى، كجزيرة شندويل بسوهاج، بجهود "الجمعية المصرية للمأثورات الشعبية"، وغيرها من المؤسسات الرسمية والأهلية في مصر. وقد أكد حضور التلي المصري على المشترك الثقافي بين مصر والإمارات، حيث تعرف حرفة التلي أيضًا في الإمارات ودول الخليج.
كما ألقي الضوء على كنوز مصر البشرية في مجال الغناء الشعبي والموسيقى الشعبية من خلال تجربة زكريا الحجاوي الذي كان له فضل اكتشاف عدد من الفنانين الشعبيين، مثل: خضرة محمد خضر؛ وجمالات شيحة؛ وفاطمة سرحان؛ وفاطمة بلال.
كذلك اهتم الأسبوع بإبراز التراث الثقافي في صعيد مصر بوصفه الحاضنة الأولى للتراث المصري، سواء في جانبه المادي أو المعنوي، وهو مخزن حيوي لمنظومة العادات والتقاليد المصرية الأصيلة، ومعين لا ينضب للحرف الشعبية المصرية، والفنون الشعبية باختلاف أشكالها. حيث انتقى الباحث درويش الأسيوطي بعض الدرر الكامنة موزعة على محاور ثلاثة، هي: دور المرأة في إبداع المأثورات الأدبية الشفهية وإيقاعاتها الموسيقية، وأشكال الموال المصري، والتقويم المصري في الأمثال الشعبية المصرية.
وفي مجال الرقص الشعبي، استعرض الدكتور عصمت يحيى الممارسات العلمية والفنية التي تحققت في مجال صون الرقص الشعبي في مصر، منذ خمسينيات القرن العشرين.
وعلى مدار الأسبوع، قدمت عروض حية لفن التحطيب، والألعاب الشعبية المصرية، وكذلك مظاهر الحياة الشعبية في الحارة المصرية، حيث عرضت الأطعمة والمشروبات الشعبية التي اشتهرت بها مصر، في جو احتفالي مصري، وبزينات شعبية مصرية.
وقدم وزير الثقافة المصري الأسبق الدكتور شاكر عبدالحميد محاضرة مهمة حول "الصناعات الثقافية" حيث كان للتراث الثقافي، لاسيما الحرف الشعبية والفنون الأدائية والأزياء والزينة وغيرها، دور مهم في إثراء الصناعات الثقافية وتطويرها.
في مجال النشر، احتوت قائمة الكتب المطبوعة في معهد الشارقة للتراث على قائمة تضم أعمالاً بارزة لمفكرين وباحثين مصريين، مثل: عباس محمود العقاد، أحمد أمين، محمد مفيد الشوباشي، د. عبدالعزيز الأهواني، د. جابر عصفور، د. محمد رجب النجار، د. أحمد مرسي، د. صلاح الراوي، د. عبدالعزيز سالم، د. مصطفى جاد، د. إيمان مهران، د. عمرو منير، إيهاب الملاح، د. محمد حسن عبدالحافظ، وغيرهم.
وفي المضمار نفسه، يشارك معهد الشارقة للتراث، كل عام، بجناح في معرض القاهرة الدولي للكتاب، كما عقد المعهد اتفاقًا مع الهيئة المصرية العامة للكتاب لطباعة كتب المعهد طبعات شعبية؛ لتكون في متناول القارئ المصري.
كما يتبنى معهد الشارقة للتراث دعم عدد من المشروعات المتميزة التي تنطلق من مصر في مجال صون التراث الثقافي ونشره ونقله، ومنها: نشر مكنز التراث الثقافي غير المادي في العالم العربي، واستضافة الفعاليات الختامية للمهرجان العربي لفيلم التراث، ودعم مشروع الفخار بجامعة الفيوم،
وفي الإطار العلمي والأكاديمي، وثق معهد الشارقة للتراث صلاته بالمؤسسات الأكاديمية المصرية، ككلية الآداب بجامعة القاهرة، وجامعة الفيوم، وأكاديمية الفنون، خاصة المعهد العالي للفنون الشعبية، ومركز دراسات الفنون الشعبية، ومكتبة الإسكندرية.
وفي الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر الجاري، يحتفي معهد الشارقة للتراث بقطعة مهمة من التراث المصري، وهو التراث النوبي، حيث يعرض مركز فعاليات التراث الثقافي بالبيت الغربي التابع للمعهد جوانب متعددة من تراث النوبيين المميز من عروض فنية ومعارض: المنتجات الحرفية النوبية- عروض الفرقة التراثية النوبية- المطبخ النوبي- مقتنيات النوبة القديمة- معرض صور النوبة- الحرف التقليدية النوبية. كما يحظى الأسبوع النوبي بحضور عدد من الباحثين الأكاديميين في التراث النوبي، وبتغطية إعلامية واسعة مصرية وإماراتية.
لا تزال هذه العلاقات تتواصل في سبيل تبادل المعارف والخبرات والتجارب وتفاعلها من أجل حفظ التراث وصونه وحمايته واستلهامه ونقله للأجيال، بوصفه مكونًا حضاريًّا كبيرًا، وأحد عناوين الهوية والخصوصية للشعبين المصري والإماراتي.