حوكمة بلا حكماء
التقيت مصادفة أحد الأصدقاء ممن يخوضون في مجالات الاستثمار، وقام بدعوتي للغداء، فقبلت فوراً، بعد ما لمست منه من إلحاح وإصرار؛ فأنهيت فوراً ما بيدي من شؤون، وتوجهنا إلى أحد المطاعم الهادئة، ليتسنى لنا الحديث والاستذكار.
وكان أول سؤال توجهت به إليه حول آخر أعماله ونشاطاته، لعلمي بأنه من أصحاب المشروعات وأهل العقار، وكانت الإجابة مملوءة بحسرة المهموم، وارتباك المحتار؛ وهي للأمانة كالتالي مع شيء من الصياغة، وكثير من الاختصار:
«رغبت في أن أوسع أعمالي، وأن افتتح متجراً في مكان راق لبيع الأغذية وغيرها من مواد وأدوات، ولأنني احتجت إلى دعم مالي حتى أنفّذ الفكرة كما أحب وأرغب، فقد عرضتها على مجموعة من الأصدقاء ممن يعملون في التمويل، وقد استجابوا قائلين: منا الإسهام كله، ومنك الإدارة والتخطيط، وما علينا سوى أن نؤسس شركة رسمية نحن مجلس إدارتها فتموّلك، وتضمن لك سلاسة الإنجاز والتنفيذ؛ وقد وافقت سعيداً، وبدأت بالتحضير، وكان أول ما بدأت به الحصول على التصاريح والتراخيص، وما أن شرعت بذلك، حتى قال أصدقائي سمّي نفسك مديراً تنفيذياً، فأنت منا ونحن منك، ولا خوف عليك ولا خشية ولا عراقيل، ولا سواك اليوم للقرار، ولا غيرك مخوّل التواقيع؛ فقلت لهم وعقد استئجار العين؟ فقالوا ضع اسمك فيه، فأنت المدير، ولك كامل التدبير. وتساءلت أيضاً عن عقود الموردين والمقاولين، فقالوا أنت لها فوقع عليها ونحن من ورائك داعمين ومساندين. فقلت والتوظيف؟ فأجابوا وظف من شئت، فأنت أعلمنا وأقدرنا على الفهم والتقرير.
فكان ما كان، وافتتحت المشروع وملأته بما طاب من المواد الغذائية ومن أجود الأنواع، وأيضاً من الأدوات والعُدد والمواد الأخرى، ومن أفضل الأصناف، طبعاً كله من خلال التزامات تعهّد أحبائي سالفي الذكر بالوفاء بها، جنباً إلى جنب مع مستحقات الإيجار.
وجاءت لحظة الحقيقة سريعاً عندما اشتدت التراكمات ولاحت الأزمات، فأخبرتهم أولاً ثم طالبتهم، والتمستهم إلى أن رجوتهم أخيراً، وبدأتُ رحلة التوسلات، وكانت إجابتهم واحدة على الدوام، نحن مؤسسة ذات مجلس للإدارة، عماده الحوكمة والتنظيم، ولا قرار لنا دون اجتماع يأتي باتفاق وإجماع؛ فتتالت الاجتماعات فيما بينهم وبُحثت التحديات، كلها من خلال التنظير حيناً، وحيناً على هدير الضحكات، واستمروا على نهجهم هذا إلى أن حاصرتني القضايا، وأنهكتني الشكايات، فكل شيء باسمي، وأنا وحدي المسؤول، أما هم فراتعون في نعيم وهناء لا يقدمون سوى وعود وما يتخللها من فارغ التطمينات.
وما زاد الطين بلة إصرارهم على أنهم لم يتخلّوا عني، وإنما هم، كمجلس إدارة مهني، يحتاجون وقتاً لفهم الحاصل ودراسة المعطيات، ومن ثم إجراء الأبحاث وتحليل البيانات، وصولاً إلى وضع الأطر وتحديد التصورات، يلي ذلك ترتيب النتائج وصوغ المقاربات، ثم دراستها من جديد، وعقد المقارنات، وبعدها استعراضها جميعاً، واستقراء التوصيات؛ يأتي بعد ذلك استخلاص العِبر منها، والعِظات أيضاً، ثم إخضاعها مرة أخرى للتداول والنقاشات، يتبع ذلك تحويلها لاتفاق مبدئي حول أفضل الخيارات، ثم طرحها للتصويت مرة أخرى بغية الإجماع عليها، تمهيداً لوضعها في مسودة أولية توطئ لما قبل القرارات، ثم بعدها....».
وهنا استوقفته وانتفضت قائلاً: «يا أخي يبدو أن مجلسكم هذا يحتاج دهراً للإدراك، ودهوراً من التأمل في الماورائيات، ولا أرى مصيراً ينتظرك سوى القضايا، وما يعقبها من نوائب وتبعات، فانفِذْ بجلدك وبعْ مشروعاتك وعقاراتك الأخرى، وصفّها جميعاً في سبيل التسويات وحسم النزاعات».
ثم أشرت إلى النادل، ودفعت الحساب ترفّقاً بصديقي الذي كان فيما مضى مستثمراً من أصحاب العقارات.
مؤسس سهيل للحلول الذكية
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.