ثقة الجاهلين
ربما عانى الكثير منا بل ربما عانى العالم كله أشخاصاً قليلي الكفاءة ويعتبرون أنفسهم الأكثر ذكاء على وجه الأرض، المشكلة عندما يستطيع هؤلاء الوصول فعلاً إلى مناصب رفيعة المستوى، سواء في الإدارة أو السياسة، فيعزز ذلك قناعتهم الشديدة وإيمانهم الراسخ بأنهم الأعلى أداء وذكاء وحكمة، لا يدرك الأشخاص غير المؤهلين كم هم غير مؤهلين، بل يميلون إلى المبالغة في مؤهلاتهم، كما أنهم غير قادرين على رؤية وفهم صفات الأشخاص المؤهلين حقاً. إن هذا الأمر ليس مجرد رأي، ولكنه ظاهرة اجتماعية ونفسية تمت دراستها على أيدي عالمي النفس «ديفيد دانينغ» و«جوستين كروجر»، وقد أطلق عليها «تأثير دانينغ - كروجر».
في أثناء تلك الدراسة قام الباحثون باستطلاع رأي طلاب جامعيين عن أدائهم في بعض الامتحانات، وقارنوا ردود الطلاب حول أدائهم في الامتحان مقارنة مع العلامات التي حصلوا عليها، فوجدوا أن الطلاب الذين كانوا متشككين في إجاباتهم وأفادوا بأنهم لم يؤدوا كما ينبغي كانت علاماتهم الأعلى، في حين أن الطلاب الذين كانوا واثقين من أنفسهم وأفادوا بأنهم أجابوا إجابات ممتازة كانوا الأقل في العلامات، كما قام الباحثون بسؤال جنود في ميدان الرماية عن معرفتهم بالأسلحة وطرق صيانتها ومدى إلمامهم بها، فوجدوا أن الكثير من الذين استعرضوا الكثير من المعرفة وأبدوا خبرات عالية كانوا الأقل في التصويب الصحيح.
والحقيقة أنه على مدار التاريخ عرفت هذه الظاهرة وقد تحدث عنها كونفوشيوس وسقراط، وتشارلز دارون الذي قال: الجهل في كثير من الأحيان يولد الثقة أكثر مما تفعل المعرفة. كما أن المتنبي قال: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم.
أهل العلم دائماً ما يتميزون بالتواضع وإدراك أنهم لم يسبروا أغوار العلوم، والمتفوقون والجادون في علمهم ليس لديهم الوقت للكلام أو الحديث عن مهاراتهم وقدراتهم على الإنجاز، لأنهم مشغولون بالإنجاز، أمّا هؤلاء الجاهلون قليلو العمل ومنعدمو الإنجاز هم من يعلوا صوتهم وجعجعتهم، ولكنهم مثل «الطبل» صوت عالٍ وفراغ من الداخل. قد تكون الإضافة الحقيقية التي قدمها عالمي النفس دانينغ وكروجر هي تعريف تلك النظرية ومنحها مسمى، ولا أظن أن هناك علاجاً من تلك الآفة أو المرض، ولكن على الأقل قد يؤدي معرفة هؤلاء الأشخاص إلى تقليل الطاقة السلبية في التعامل معهم، أو البُعد عنهم إذا أمكن. أمّا في إطار العمل، فالحل الأمثل هو تأسيس نظام تقييم وإدارة للأداء يعتمد على مهام ومخرجات محددة يمكن قياسها، بحيث لا يحتاج أحد للحديث عن نفسه أو تعبئة نقص الأداء بالكلام والجعجعة، يحتاج الأمر إلى نظام إدارة أداء يضع هؤلاء في حجمهم الحقيقي بمؤشرات واضحة لا تحتمل سفسطة أو كلاماً مرسلاً.
وعلى المستوى الاجتماعي لا أدري سبيلاً للتعامل مع هؤلاء سوى تقليل الاحتكاك بهم والبُعد عن الجدال معهم، فلا أظن أن الشخصية ستتغير خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالمبالغة في تقدير الذات، وربما يتعلمون يوماً بالطريقة الصعبة ليعرفوا حجم قدراتهم الحقيقي. المقال القادم، إن شاء الله، سيتناول ظاهرة على النقيض من تلك الظاهرة.
@Alaa_Garad
Garad@alaagarad.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.