مثقفو البيدانتريلوجيا
لكيلا أُتعب القارئ العزيز بالبحث في المعجم عن هذه الكلمة الغريبة، أوفّر عليه جهده فأهمس له ألا وجود لها، لكنّني اشتققتها من لفظة «Pedantry» الإنجليزية التي تعني «التحذلق»، فيكون المعنى «مثقفو علم التحذلق» والعنوان مقصود للإضاءة على فئة من المثقّفين ضاقت بهم لغتهم عجزاً أو عقدة نقص أو تعالماً، فأتحفوا مسامعنا بمصطلحات لو عرفها القدماء لاستعملوها تعويذة لاستحضار الجنّ.
لا أنكر أن تدفّق المصطلحات في زمن الثورة المعلوماتية، وتشظّي العلوم وتفرّعها يجعل من الصعب بل من المستحيل متابعة ذلك كله وتعريبه، وهذا ليس حكراً على اللغة العربية وحدها، فقبل أشهر أصدرت «الأكاديمية الفرنسية» وهي أعلى مرجعية لغوية بفرنسا بياناً من 30 صفحة يحذّر من غزو المصطلحات الإنجليزية للغة موليير، وأعربت عن قلقها البالغ من ذلك. ولكن بالنسبة لنا ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه، وهل تنقصُ معرفتنا إذا قلنا علم اجتماع بدل سوسيولوجيا أو علم النفس بدل السايكولوجيا، ومئات المصطلحات التي استقر مقابلُها العربي واستساغته الأقلام منذ عقود؟ ألا يكفي أن لغة شبابنا صارت مزيجاً غير متجانس من الإنجليزية والعربيّة كالغراب الذي أضاع مشيته عندما أراد تقليد مشية الحمامة، أو على حد وصف حافظ إبراهيم في قصيدته الشهيرة عن اللغة العربية حين قال: فَجاءَت كَثَوبٍ ضَمَّ سَبعينَ رُقعَةً مُشَكَّلَةَ الأَلوانِ مُختَلِفاتِ
ألا يكفى نقص المقروئية وانصراف القرّاء عن الكِتاب إلى وسائل التواصل الحديثة، ليُنفّر المثقّفون المتحذلقون من بقي وفيّاً للحرف ورائحة الورق.
أذكر أنني أثناء دراستي الجامعية كنت مولعة بالنقد البنيوي، وكنت أصطدم بمصطلحات كالسنكرونية والدياكرونية وأتعجب لم يتجنب الباحث الأكاديمي من ألفاظ جميلة كالتزامن والتعاقب. أتفهم أن يلجأ الكاتب العربي إلى نقل المصطلح الغربي المحمّل بالدلالات الفلسفية كما هو هروباً من «فوضى المصطلح» أو خوفاً من محاولة تعريبه أو حتى كسلاً عن ذلك، أما أن أقرأ نصّاً وكأنه مكتوب باللغة الأجنبية لكن بحروف عربية، فلا يمكنني احترام كاتبه لأنه لا يحترم لغته التي هي أهم مقومات هويته الوطنية.
ترجمتْ مجامع اللغة العربية مجتمعة عشرات آلاف المصطلحات الأجنبية في مختلف الميادين وأصدرت معاجم في ذلك، ورغم بطئها في تتبع ما يستجد في مختلف المعارف إلا أن ما تقوم به عمل جبار يثمّن. فلماذا ندع هذا الجهد حبيس الأدراج ولا نستفيد منه كما استفدنا من تعريب المجامع نفسها لكلمات كالهاتف والحاسوب والتلفاز ومئات غيرها؟ ولماذا يستعرض كاتب عضلاته اللغوية بتطعيم نصه بكلمات تستغلق أحياناً حتى على أهل الاختصاص؟ هل هذا التهويل وأحياناً الادّعاء يخدم فكرته، أم هو «ولعُ المغلوب بالاقتداء بالغالب» كما يقول ابن خلدون؟
لغتنا العربية مِطواعة تقبل الغريب وتدخله في نسيجها فيصبح من أهل بيتها، وخاصية الاشتقاق فيها تسهّل الترجمة والتعريب، فيجدر بمن يكتب بها من المثقفين ألا يعزف نغمةً نشازاً في نصه تزعج عين القارئ وأذنه، وقبل ذلك تغرز سكّيناً في جسد «لغتنا الشاعرة».
لماذا يستعرض كاتب عضلاته اللغوية بتطعيم نصه بكلمات تستغلق أحياناً حتى على أهل الاختصاص؟ هل هذا التهويل وأحياناً الادّعاء يخدم فكرته، أم هو «ولعُ المغلوب بالاقتداء بالغالب» كما يقول ابن خلدون؟
@DrParweenHabib1
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.