المضارّةُ في الحضانة
شريعتُنا الإسلامية لم تدع صغيرةً ولا كبيرةً مما يحتاجه الناس إلا وفيها البيان الشافي بالبرهان الوافي، فلو أن الناس طبقوها في واقعهم لأراحوا واستراحوا، وكانوا لله قانتين، إلا أن كثيراً منهم لا يرون للدين اعتباراً، ولا للرَّحِم وقاراً، فتراهم يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق، ويؤرقون القريب والبعيد، ويشغلون مَن حقه أن يصان ويكرم في ساحات العدالة والرأي العام.
إن الحضانة لمن يستحقها قد أولتها الشريعة الإسلامية عنايتها الفائقة في محكم الكتاب، ونصوص السنة الشريفة، والعنوان العريض لها في كتاب الله تعالى في الآية 233 من سورة البقرة التي يقول فيها ربنا جل شأنه بعد ذكر مدة الرضاعة لمن أراد أن يتمها: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} والنفي هنا معناه النهي أي لا يجوز للوالد أن يضار الوالدة بأولادها، ولا يجوز للأم أن تضار الأب بأولاده، فالضرر منهي عنه من كل أحد، كما قال عليه الصلاة والسلام : «لا ضرر ولا ضِرار» أي أن الشريعة الإسلامية تنهى عن الضرر ابتداءً، وعلى وجه المقابلة، والنهي عن الإضرار في الآية الكريمة وفي الحديث الشريف للتحريم، أي أن من يضار يرتكب أمراً محرماً؛ لأن في ذلك أذيةً للطرف الآخر، وللمولود نفسه وإن لم يشعر بها في صغره فسيشعر بها عند كِبره، وتكون مرارةً له في حياته، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} أي هو إثمٌ بيِّن للناس، ويجب اجتنابه؛ ذلك أن القصد من الحضانة هو الإحسان للمحضون بحسن تربيته وتنشئته بدنياً ونفسياً وخُلقياً واجتماعياً، حتى يكون نافعاً لنفسه وأقاربه ومجتمعه ووطنه، فإن نُشئ بغرس الكراهية للأقارب من أب أو أم أو إخوة وأخوات أو جد وجدة ونحوهم من الأقارب والأباعد، فإن ذلك يعد تفريطاً بواجب الأمانة في رعاية المحضون، وقد سمى النبي عليه الصلاة والسلام هذا الحال بـ«الحالقة» فقال «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟» قالوا: بلى يا رسول الله قال : «إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة» وفي رواية «.. وإياكم والبغْضة، فإنها هي الحالقة» أي تحلق الدين كما في رواية الترمذي، بمعنى أن البغضاء تذهب بالدين كالموسَى تذهب بالشَّعر، وهذا الوعيد في هذا المقام يوجه لمن يُنشِّئ الناشئة على البغضاء، ثم للناشئة إذا شبَّوا على ذلك؛ لما قد تأصل فيهم، كما قالوا: يشيب المرء على ما شبّ عليه..
إن الواجب في مسألة الحضانة هو مراعاة المحضون بما يحقق له المصلحة الحاضرة والآجلة، بكل تجرد عن حظوظ النفس، ونزغات الشيطان، ورفقاء السوء الذين يحرضون على الباطل، وقطيعة الرحم، وإطالة أمد الخصومات، وشغل العدالة عن واجباتها الكثيرة، فذلك من التحريش الذي نهى عنه الشارع الحكيم، وهو من فعل الشيطان الذي آلى على نفسه فعله بين الناس، كما في الحديث الصحيح «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التَّحريش بينهم».
إن الأولاد أمانة بين الوالدين ويجب أن تُؤدى الأمانة كما أمر الله تعالى من رعاية صالحة وحسن تربية وتعليم، وإلا كان المفرط فيها مسؤولاً أمام الله تعالى وأمام المجتمع الذي سيحكم على المفرط فيها بما يسوء ذكره، فلو أن الناس كانوا على قدر مسؤولية الأمانة وفكروا في مسؤولية الرعاية لكفوا عن كثير من العناء، وبذلوا الحق طائعين، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وإن علموا لا يعملون، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
• شريعتُنا الإسلامية لم تدع صغيرةً ولا كبيرةً مما يحتاجه الناس إلا وفيها البيان الشافي بالبرهان الوافي، فلو أن الناس طبقوها في واقعهم لأراحوا واستراحوا.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.