«نلتقي»
على هامش السّيرة
لماذا يستعجل شابّ لم يبلغ الأربعين كتابة سيرته الذاتية أو مذكراته؟ استوقفني هذا السؤال وأنا أقرأ وأكتب في الأيام القليلة الماضية حول كتاب «الاحتياطي» للأمير هاري. وبغضّ النظر عن دوافع الأمير، فالحاجة إلى مشاركة الآخرين تجاربنا وذكرياتنا متأصّلة في النفس الإنسانية، كتأصّل الفضول في نفس المتلقي كذلك. لذلك يجد هذا النوع من الكتب رواجاً، خصوصاً ما يكتبه المشاهير.
لا أنكر أن لي شغفاً خاصاً بالسير الذاتية والمذكرات ومكتبتي الشخصية تحوي عدداً لا بأس به منها، فهي كاللقاء بالبشر، بعضها يسعدك أو يحفّزك والبعض الآخر يخيّب ظنك أو يحبطك. تركتني مذكرات الأمير هاري مثلاً موزّعة بين التعاطف معه على ما تعرّض له من مأساة مقتل والدته ورفض العائلة المبطن لزوجته ميغان وإساءة معاملتها، وبين عدم ارتياحي لفضح أسرار عائلته ومحاولته تهشيم صورتها وهي تمثل الكثير لشعبها.
وحين أقارن إحساسي مع سيرة قرأتها أخيراً للكاتب الراحل محمد أبوالغيط بعنوان: «أنا قادم أيها الضوء» أجد الفرق شاسعاً، كنت أعلم حتى قبل قراءة الكتاب أنه موجع مما سمعت عنه، لذلك تحاشيت اقتناءه وأنا أتجوّل في مكتبات القاهرة، ولكن هذا الامتناع تلاشى وأنا أرى الكتاب في مكتبة المطار، فكان رفيقي في رحلة العودة إلى دبي.
تألمت كثيراً وأنا أقرأ ما اعتبرته وصية المحتضر الأخيرة، ولكن أنهيته وأنا معجبة بشجاعة هذا الشاب الذي واجه قدره بشجاعة، بل وبسخرية أحياناً. وهو شعور أحسسته حين أعدت قبل فترة قراءة كتاب «الأيام» لطه حسين، وكيف أصبح هذا الطفل الأعمى المغمور القادم من صعيد مصر وزيراً وملء سمع الدنيا وبصرها وعميداً للأدب العربي. بل إن حديثه في «الأيام» عن زوجته سوزان هو ما حفّزني لإنجاز كتابي «أبصرت بعينيها: المرأة في حياة طه حسين وأدبه».
وقد تلهمني جملة في مذكرات شخص ما أكثر من أي أمر آخر لأني أعتبرها كما يقول العطّارون عن أعشابهم «صحيح مجرّب». ولعل فضولي الشخصي والفضول أوّل عتبات التعلّم، وطبيعة وظيفتي في البرامج الحوارية التي هي في أحد أوجهها تدوين مرئي لسيرة الضيف الذاتية، حبّبا إلي هذا اللون من الكتب. فقد كنت - وماأزال - أعتبر ضيوفي بتجاربهم الجميلة أو المزعجة أحياناً كتباً حيّة أستفيد منها علماً وخبرة وعمقاً. وهذا ما تمنحه لنا المذكّرات حتى ولو كان الغرض منها «قتل الأب».
• كنت أعلم حتى قبل قراءة كتاب محمد أبوالغيط «أنا قادم أيها الضوء» أنه موجع مما سمعت عنه، لذلك تحاشيت اقتناءه وأنا أتجوّل في مكتبات القاهرة، ولكن هذا الامتناع تلاشى...
DrParweenHabib1@
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.