الحُرِّيةُ المُدَّعاة
كثير هم الذين يدَّعون ما ليس لهم، ثم لا يلبثون أن تفضحهم البينات، فيغدون أدعياء، على حد قول الشاعر:
والدعاوي ما لم تقيموا عليها * بيناتٍ أبناؤها أدعياءُ
ومن أولئك مُدعو الحرية، الذين مجَّت الأسماع شنشنتهم أنهم أربابها وحماتها، فإذا حصحص الحق لم تحس لمدعيها همساً ولا حساً.
إن الحُرِّية بمفهومها الواسع هي ترك الناس وما يريدون من اختيار دينهم الذي يرتضونه لأنفسهم ابتداءً، وترك الناس وما يريدون من الحِجاج والجدال فيما هم مقتنعون به.
ويُعرِّفها القانونيون بأنها «حقّ الفرد في أن يتصرف وِفق رغباته، دون إلحاق أي ضرر بالآخرين» وبهذا التعريف أخذت دساتير الدول المختلفة، ودقِّق النظر في الجزء الأخير «دون إلحاق أي ضرر بالآخرين».
فعلم بذلك أنه ليس من الحرية في شيء الاعتداء على خصوصيات الآخرين في معتقداتهم أو مقدساتهم، كما لا يكون ذلك في أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم، ولا في أجسادهم التي هي ملك خالقهم سبحانه، فإن من تجرأ على شيء من ذلك فإن القانون يجرمه لدى كل الأعراف والنُّظم الإنسانية، ويوقع عليه الجزاء الرادع، وبهذا يتضح أن ما يقوم بها شذّاذ الآفاق من التعدي على مقدسات الإسلام خاصة، بزعم أنهم يحمون الحرية الفردية، أن هذا التعدي يعد تناقضاً فاضحاً لمدَّعاهم، ويكونون كما قال الحديث الشريف: «المتشبع بما لم يُعط كلابس ثوبَي زور» فإن هذه الأفعال تدل بجلاء على أنهم أبعد ما يكونون عن الحرية، فكان جديراً بهم سِمة «فاقدي الحرية» لعلهم يراجعون أنفسهم لتصدقهم الأفعال قبل الأقوال.
إن الحرية هي أخص خصائص الإنسان، وقد جاءت بها الشرائع السماوية، فليست مصطلحاً جديداً، ولا هي مِنَّة من أحد، فإن الإنسان يولد حراً، حتى تطرأ عليه العبودية الفكرية أو الجسدية، كما قال أمير المؤمنين سيدنا عمر رضي الله عنه: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» يقول ذلك مخاطباً أحد عماله الكبار، في القصة المشهورة، وهو يقرر هذا المبدأ الإسلامي والشرائعي، الذي نفاخر به الأمم.
إن التعدي على الغير في معتقده أو ماله أو عِرضه يُعد همجية مقيتة، وكفى بهذا الوصف شناعة على من فعل ذلك باسم الحرية، والمتعيّن على أولي الأَيْد والقوة أن يمنعوا مثل ذلك ويأطروا أولئك المعتدين أطراً، فإن حماية القيم الإنسانية ومنها إنكار المنكر، وإحقاق الحق، ونصرة المظلوم، من الواجبات الكفائية على المجتمعات، وإلا كان الساكتون على ذلك مشاركين للمنحرفين، وقد ذم الله تعالى الساكتين عن المنكرات أبلغ ذم، بقوله سبحانه: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ وإنما نالوا مثل هذا الذم لأن سكوتهم عُدَّ إقراراً للمنحرفين، وهكذا يكون حال الساكتين عن هذه الأفعال الشنيعة من التعدي على المقدسات، أو على الذات الإنسانية، وتغيير فطرتها بما عرف بمجتمع «الميم» بل إن الأدهى والأمرّ أن يكون مثل ذلكم التأييد ممن ائتمنهم الناس على دينهم، فهَوَتْ بهم الأهواء ليقروا مثل تلك المنكرات.
ومن خلال النظرة فيما يعيشه العالم المسمى بالمتحضر أو المتحرر وهو ينتهك الحرية؛ فتعطينا إيجابية للاعتزاز بديننا وقيمنا وحضارتنا وحريتنا ومجتمعاتنا الراقية التي تنكر مثل تلك المنكرات، وتثبتنا على القيم الإسلامية والإنسانية، فنحمد الله على ما هدانا ، كما ورد في الأثر «إنما تنقض عرى الإسلام عُروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لا يعرف الجاهلية» أو كما قال الشاعر: والضدُّ يُظهر حسنه الضدُّ.
نسأل الله تعالى الهداية والحماية من الغواية.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.