روايات الديستوبيا العربية
ليس غريباً أن تحلم البشرية بعالم مثالي، تسوده المحبة، وتعمّه السعادة، وتعطّر أجواءه المسالمة بين الناس.
والحالمون شتى، منهم من متّعنا بسعة خياله ورحابة رؤآه لعالم أفضل، مثل أفلاطون في جمهوريته المثالية، وأبي نصر الفارابي في مدينته الفاضلة، وتوماس مور في جزيرته التي سمّاها «يوتوبيا».
و«الجعان يحلم برغيف العيش»، كما يقول الأهل في مصر. نحن نحلم بما هو مثالي وفاضل ويوتوبي، لأن عالمنا ليس مثالياً ولا فاضلاً ولا يوتوبياً، بل هو عالم ناقص وفاسد وباطل، يحوّل الحلم الجميل إلى كابوس مخيف يقض المضاجع. هذا الكابوس يسميه البعض «ديستوبيا».
خلال العقدين الأولين من القرن الـ21، ظهرت في المشهد الأدبي العربي كمية متزايدة من الروايات التي يطلق عليها روايات الديستوبيا العربية، وأكثرها من تأليف كتّاب مصريين.
دعونا نبحث في بعض من الأعمال الأدبية المصرية، في إطار التقليد السردي لعالم الواقع المرير والبائس، ونسلط الضوء على الاختلافات والتشابه بينها وبين أدب الديستوبيا الغربية.
نشر العديد من الروايات والقصص القصيرة التي وصفت بـ«ديستوبيا» في المقالات الصحافية، على الويب وفي المدونات. تستحق هذه الظاهرة بعض الاهتمام، فهي تحظى بشعبية خاصة في الوقت الحاضر، لسبب بسيط هو أن الأمل في مستقبل أفضل دائماً ما تتبعه خيبة أمل: «الديستوبيا تتبع اليوتوبيا كما يتبع ظهور البرق دوي الرعد»، كما قال جيل ليبور (2017) لصحيفة نيويوركر.
في كتابه الصادر عام 2017 عن الديستوبيا، يذكر غريغوري كلايس Gregory Claeys خمسة موضوعات رئيسة لروايات الديستوبيا الغربية (أ) ظهور العصر النووي وإمكانية التدمير الكامل الذي ينطوي عليه؛ (ب) التهديدات البيئية مثل تغير المناخ وزيادة عدد السكان؛ (ج) الطبيعة الطاغية للآلات، ما يؤدي إلى فقدان الفردية والحرية؛ (د) الانحطاط الثقافي للمجتمعات الليبرالية غير الشمولية الناجم عن الانغماس المفرط في إشباع الغرائز؛ (هـ) القلق الناجم عن الإرهاب.
في المقابل، لايزال مجال النقد الأدبي العربي يفتقر إلى منهج نظري معادل ومنظم للأدب الديستوبي، فلا يوجد مصطلح محدد له، وغالباً ما تستخدم الكلمة الإنجليزية Dystopia، إلى جانب أشكال مختلفة من العبارات، مثل «أدب المدينة الفاسدة».
نلاحظ العلاقة الوثيقة بين المدينة الفاضلة والديستوبيا، ففي رواية «رحلة ابن فطومة» لنجيب محفوظ (1988)، يبدأ ابن فطومة في رحلة، بحثاً عن البلد المثالي، لكن جميع البلدان الخمسة التي يزورها، على الرغم من ظهورها في البداية مجتمعات مثالية، هي في الواقع مجتمعات ديستوبية مقنّعة، تستوطنها العبودية والصراعات والسياسة الشمولية، وتمنع الفردية والحرية والديمقراطية.
وقد شهد الجزء الأخير من القرن الـ20 أيضاً نشر ثلاث روايات خيال علمي مصرية، تحكي جميعها قصة اليوتوبيا الفاشلة. الأولى هي «سكان العالم الثاني» لنهاد شريف (1977)، وهي قصة مجموعة من العلماء الشباب قاموا ببناء مدينة طوباوية في قاع البحر من أجل الفرار من حياة صعبة على الأرض. الرواية الثانية هي رواية «هروب إلى الفضاء» للكاتب حسين قدري (1981)، التي تحكي قصة ثلاثة من سكان كوكب الأرض الذين يسقطون بمركبهم الفضائي على كوكب مثالي. الرواية الثالثة هي «السيد من حقل السبانخ» لصبري موسى (1984)، وتدور أحداثها على الأرض في القرن الـ23.
الملاحظ هنا أنّ هذه القصص تعبّر عن قلق مؤلفيها على مصير بلادهم، وأنّ أسئلتهم تدور حول إشكالية النظم الاجتماعية والسياسية، وليس محاكاة الديستوبيا الغربية التقليدية.
باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.