الهوية ليست مجرد «جواز سفر»

يسعى كثير من الناس لاكتساب جنسية أخرى من دول «العالم الأول»، لما تتيحه من مزايا لحامليها، لاسيما حرية التنقل دون الانتظار طويلاً للحصول على تأشيرة، والبعض يلجأ لذلك مضطراً لظروف قاهرة كالحروب أو الاضطهاد أو لوضع إنساني معين، ويمكن طبعاً تفهم ذلك تماماً، وليس من حق أحد الحكم على طرف آخر في سعيه لتحسين ظروفه المعيشية، لكن الذي يستوقفني دائماً هو فقدان الهوية، فالبعض ممن يحصلون على الجنسية الأخرى وبمجرد إمساك جواز السفر الجديد يقيمون الأفراح والليالي الملاح، وتتغير مباشرة لغة الحوار، فتبدأ بسماع جمل مثل «عندنا في كندا»، أو «إحنا في السويد»، كما يحرصون على إبراز ذلك في السطر الأول في السيرة الذاتية، وقد صادفت ذلك كثيراً في مقابلات التوظيف، حيث كان بعض المتقدمين يحرصون دائماً على إبراز أن لديهم جنسية ما، ولا أنسى أبداً أحد المتقدمين قبل أن نبدأ في الأسئلة بادرنا «أنا فلان الفلاني وأنا كندي!».

وكان لسان حال لجنة المقابلة ما هذا الإحداث والدونية، نحن بالأساس نسعى لتوظيفك لأن التدريس باللغة العربية، ولن تضيف جنسيتك للوظيفة، ستفرق في بدل تذكرة السفر فقط. هذه بعض الأعراض البسيطة لأزمة فقدان الهوية، فهناك بعض الأشخاص بطبيعة الحال لا يوجد لديهم انتماء، ليس فقط لبلدهم الأم، ولكن لمجتمعهم ولأصدقائهم، بل لأرحامهم. وبملاحظة بسيطة أستطيع القول إن الأشخاص من نوعية صاحبنا الفخور «بكنديته» لديهم مشكلات كثيرة في سلوكاتهم وتعاملاتهم، ويكفي الإحداث الذي يعيشونه والفقاعة التي يحصرون أنفسهم فيها. عرض آخر لمتلازمة الإحداث تلك هي الحرص على إتقان الأطفال اللغة الأجنبية، والبعد عن اللغة العربية، كما لو كانت عيباً أو تقليلاً لقيمتهم، وأرى تلك النوعية كثيراً في المطارات، وهم يتحدثون لأولادهم باللغة الإنجليزية، ويستعرضون «جواز السفر»، على طريقة الفنان أحمد حلمي في فيلم «عسل أسود».

لا أدري إن كان هناك علاج لفقدان الهوية والإحساس بالدونية، أم لا علاج لذلك، خاصة أنه إحساس يكبر به الإنسان، ويحتاج سنوات طويلة حتى يتشكل ويتجذّر في وجدانه، كما أن الحصول على جواز سفر آخر لا يعني أن تتغير هوية الإنسان فور التمتع بجنسية أخرى، فوطن الإنسان مهما جار عليه يجب أن يظل عزيزاً مُحترماً ومُقدراً، فالوطن ليس فندقاً أو استراحة، ولا توجد دولة خالية من المشكلات، فدولة مثل بريطانيا «العظمى» تعاني الأمرّين، ويكفي أن ثلث أطفالها يذهبون للمدارس دون إفطار، لعدم قدرة الأهالي على توفيره، وأكثر من 40% من السكان لا يستطيعون سداد فاتورة الكهرباء والغاز، وأميركا لديها من الفقر وعدم المساواة، وسوء الرعاية الصحية ما لا يتخيله بشر. وكل دول أوروبا تمر بأزمات عصيبة، ليس فقط اليوم، ولكن منذ عقود، نعم هناك تسهيلات لحاملي جوزات بعض هذه الدول، ولكن هذا لا يبرر فقدان هويتنا، فمن لا يوجد لديه انتماء لوطنه، لا يوجد لديه انتماء أو امتنان لأي شخص آخر حتى لو كان شريك حياته. وصدق الشاعر حين قال «بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ وأهلي وإن ضنّوا عليّ كِرام».

وليس من حق أحد الحكم على طرف آخر في سعيه لتحسين ظروفه المعيشية، لكن الذي يستوقفني دائماً هو فقدان الهوية.

Garad@alaagarad.com

@Alaa_Garad

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.

الأكثر مشاركة