مقال نلتقي.. د. بروين حبيب
خنفشاريّو وسائل التواصل
تابعتُ بألم نتائج الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية، وكتبتُ عنه. وأثناء متابعتي لتداعياته ومآسيه، اكتشفت مجموعة كبيرة من خبراء الزلازل كانوا يعملون سابقاً تحت مسمّيات مختلفة، فمنهم من كان ممثّلاً، وأخرى قارئة فنجان لم يعرفها نزار قباني للأسف، وثالثة مدمنة قراءة أبراج ومتابعة عرّافي القنوات التلفزيونية، تحوّل الجميع إلى علماء عارفين بتحرّك الفوالق في الأرض وتقارب الصّفائح التكتونية، وتقمصتهم الروح التنبئية، فيخبرونك بأنّ في اليوم الفلاني سيدمر زلزال الشرق الأوسط، وفي التاريخ العلاني سيُغرق التسونامي عواصم عديدة على البحر.
لو اقتصر الأمر على ثرثرة صباحية لهانت، ولكنهم ينشرون تهاويلهم في صفحاتهم الاجتماعية، ولهم متابعون يأخذون كلامهم بجدية كبيرة، وهات يا رعب. وحين تنبّه أحدهم بأن الخبراء الحقيقيين وعلماء الزلازل يقولون غير هذا، فلا أحد يستطيع التنبؤ بوقت حصول الزلزال، يرفع حاجبيه متفاجئاً من تخلّفك، فمصادرك عفّا عليها الزمن، بينما هو يأخذها طازجة من فم «اليوتوبر» الموسوعي و«الفاشنيستا» الملهمة.
لنجرب مرة أن نعمل إحصاء بسيطاً في «إنستغرام» أو «تويتر» لنرى كم من شخص يتحدث في غير تخصصه وينظّر للآخرين. خريج إدارة أعمال يقيم دورات في علم النفس، وصحافية تحاضر في طب الأعشاب، وضابط إيقاع يرسم استراتيجيات للحرب الأوكرانية، معتبراً أن لفظة ضابط في صفته المهنية تؤهّله لذلك. فوضى مطلقة، يكفي أن يكون لدى الإنسان عدد متابعين معقول ليصبح دائرة معارف ناطقة، يتحدث في كل شيء ولا يرفّ له جفن. وقد ابتلي الأجداد برجل من هذا الصنف، ما سئل عن شيء إلا وأجاب. فاتفق أصحابه على أن ينطق كل واحد منهم حرفاً، وجمعوا الحروف فتكوّنت كلمة خنفشار، وحين سألوه عن معناها، قال إنه نبات إذا أكلته الإبل انعقد لسانها، واستشهد لهم ببيت من صنعه:
لقد عُقدت محبتكم بقلبي... كما عقدَ الحليبَ الخُنْفُشار
ومن حينها أصبحت اللفظة صفة تطلق على كل مدّع متعالم. وكم أبدعت خفة الظل المصرية حين تسمي هاته الأشكال «بتاع كلّه».
ألأجل حفنة من الإعجابات يتلاعب المؤثّرون، كما يسمَّون، بمن يفترض أنهم محبّوهم أو على الأقل متابعوهم؟! رأيي الذي أجاهر به إذا لم يكن هناك رادع أخلاقي لهؤلاء فلا مفر من حلول أخرى أكثر حزماً، حتى تُحفظ للعلم حرمته، ويُسمَعَ للعالم صوتُه. ففي زمن الكوارث لا تطمئننا إلّا المعلومة الصحيحة ممّن قضى زهرة شبابه يبحث فيها، لا ادّعاءات أنصاف منجّمين وأرباع عرّافات، وإن خدمتهم الصّدفة يوماً.. فاحترموا عقولنا قليلاً.
في زمن الكوارث لا تطمئننا إلا المعلومة الصحيحة ممّن قضى زهرة شبابه يبحث فيها، لا ادّعاءات أنصاف منجّمين وأرباع عرّافات، وإن خدمتهم الصّدفة يوماً.. فاحترموا عقولنا قليلاً.
@DrParweenHabib1
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.