مهمة «النيادي» وصناعة الإلهام
عاش الإماراتيون، ومعهم الملايين حول العالم، أمس، لحظات تاريخية، شهدوا خلالها العد التنازلي الذي سبق إقلاع الصاروخ «فالكون 9» الذي يحمل مركبة الفضاء «سبيس إكس دراغون إنديفور»، حاملة رائد الفضاء الإماراتي سلطان النيادي، إلى جانب ثلاثة روّاد فضاء من العالم، إلى أبعد نقطة يصلها البشر، حيث محطة الفضاء الدولية. ولا أخفيكم أنني، كما جميع من تابع باهتمام عملية الإطلاق، أحسست بمشاعر مختلطة بين القلق والتوتر، إلى جانب الحماس أيضاً، وهي مشاعر إنسانية مشروعة، لاسيما أنني تخيلت مشاعر والدة سلطان وهي ترقب ابنها على الهواء مباشرة في مهمة بهذا العمق، وبهذه الأهمية.
في الأمس، سطّر التاريخ مجداً جديداً للإمارات، وهي تخوض غمار العلوم الفضائية بكل ثقة واقتدار، ما يبرهن على نجاح استراتيجيتها القائمة على الاعتناء بالإنسان الإماراتي، وتأهيله بأفضل الطرق ليكون له مكان في جميع قطاعات المستقبل، حتى تلك التي كنا، ولفترة قريبة، نظنها حكراً على شعوب بعينها، ولا حيز لنا فيها، إلى أن جاء قادتنا وكان لهم رأي آخر، فالدولة ماضية في إرساء دعائم هذا القطاع الحيوي من خلال رفده بالكفاءات الوطنية المؤهلة، وإطلاق مزيد من المشروعات العلمية النوعية للإسهام في برامج استكشافات الفضاء، ودعم الصناعات المرتبطة بما يخدم البشرية، ويعود بالخير على حاضرها ومستقبلها.
قد يتساءل البعض: لماذا تنفق الدولة مبالغ هائلة على تأهيل روّاد فضاء إماراتيين، والدخول في مشاريع فضائية كبرى حالياً ومستقبلاً تكلف المليارات من الدراهم؟ وربما يرى البعض أن من الأفضل توجيه هذه المبالغ إلى أبواب أخرى أكثر جدوى؟
حسناً، في الحقيقة فإن الدخول إلى عالم الفضاء، وسبر أغواره، واكتشاف أسراره، لم يعد ترفاً، كما يظن البعض، بل ضرورة علمية، تنعكس بآثارها على حياة البشر على الأرض. ويكفي الإشارة هنا إلى أن الجدول المخصص للنيادي خلال الأشهر الستة التي تبدأ من اليوم، عقب التحام الكبسولة الفضائية التي تحمل روّاد الفضاء مع محطة الفضاء الدولية؛ سيحمل الكثير من التفاصيل المحددة بالتعاون مع فريق المهمة، التي تتضمن إجراء 20 تجربة علمية، سيقوم النيادي بإجراء عدد كبير منها بشكل شخصي، وستتناول تجارب علوم الحياة، والتغيرات التي تحدث للسوائل ضمن بيئة الفضاء، فضلاً عن بحث مدى وكيفية تحمل مختلف المواد لظروف الجاذبية، إضافة إلى تجارب تختص بعلم النفس الذي يبحث في تأثيرات العيش في هذه البيئة على أجهزة جسم الإنسان، خاصة خلال الفترات الطويلة خارج الكرة الأرضية، وصولاً إلى التجارب البيولوجية التي ترتبط بالنباتات وكيفية زراعتها ونموها وتأثيرات الجاذبية عليها.
هذا هو الاستثمار في العلم والتعليم وتأهيل الشباب لتكون لهم بصمة في المشاريع المرتبطة بقطاعات الطاقة وصناعة الطيران والفضاء في تعزيز توجه الإمارات نحو تسخير البحث العلمي لأهداف استثمارية، ضمن خططها الرامية لتعزيز مساهمة القطاعات غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي.
هذا هو الاستثمار في الإنسان، وهو نتاج برنامج الإمارات لرواد الفضاء، الذي استطاع منذ انطلاقه تحقيق إنجازات مبهرة، من بينها أنه أصبح لدينا فريق وطني من رواد الفضاء، يضم هزاع المنصوري وسلطان النيادي ونورا المطروشي ومحمد الملا، هؤلاء الأبناء النجباء ستُذكر أسماؤهم في المحافل الدولية، إلى جانب زملائهم ممن يعملون مع الكبار في علوم الفضاء، بدءاً من وكالة الفضاء الأميركية (ناسا)، والوكالة الأوروبية (إيسا)، ووكالة استكشاف الفضاء اليابانية (جاكسا)، والوكالة الروسية (روسكوسموس)، وغيرها. وهم يقومون بذلك بالنيابة عن شباب العرب جميعهم، يجسدون أحلامهم، ويشحذون هممهم، ليكون لهم نصيب في هذا العالم.
ستنقضي الأشهر الستة المقبلة لمهمة النيادي، وسيعود إلى حضن وطنه بإذن الله لنا سالماً غانماً، وسنكون في ختام المهمة على موعد مع حلم جديد يتحقق فيه الإلهام لشبابنا وبناتنا، حلم يتجدد مع المزيد من المشروعات الفضائية في المرحلة المقبلة، ومواصلة إطلاق الأقمار الاصطناعية النوعية الجديدة. وسيحل النيادي، كما المنصوري وفريق روّاد الفضاء، ضيوفاً على طلابنا في المدارس والجامعات والمحافل العلمية، لتقديم حصيلة تجاربهم وخبراتهم، وإشاعة ثقافة الفضاء والعلوم في بلادنا من أوسع الأبواب. هذا هو المستقبل، وهذه هي صناعة الإلهام التي لا يتقنها سوى قادة ملهمين، كقادة الإمارات.
@MunaBusamra
Muna.busamra@emaratalyoum.com
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.