شهر القراءة
ما أجملَ أن تهتم القيادة الرشيدة بالقراءة، وتجعل لها أنشطةً متعددةً خلال شهر القراءة لتكون محفِّزةً لأبناء وبنات الوطن على القراءة حتى تكون نهج حياةٍ لهم، فتتفتح آفاقُهم المعرفية، وتتوسع مداركهم الذهنية، ويكونوا بذلك منوَّرين، يعرفون المعنى الكامل لحياتهم الدنيوية والأخروية، ويعلمون أن هذه الحياة مع قصرها يمكن أن تكون جزءاً من تلك الحياة الباقية إن هم استغلوها بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، فيسعدون سعادةً دائمة.
إن القراءة هي المجال الرحب للعيش مع عقول الآخرين والاستفادة من خِبراتهم وأفكارهم النافعة، فتنمو الملكة الفكرية عند القارئ؛ لأنه يلقِّح فكره بأفكار غيره، فإن الكتاب هو عقل الكاتب يضعه بين يدي القراء ليحمدوه إن كتب خيراً، وقد يذمونه إن كتب غير ذلك، ولذلك قالوا: من ألف فقد استُهدف، أي إن ألَّف تأليفاً غير نافع كأن يكتب ما لا يفيد القارئ؛ فإن القارئ يتهمه بأنه ضيع عليه وقتاً من عمره بغير فائدة تعود عليه، فإن هو ألَّف ما يفيد وجد من الثناء ما يخلد ذكره ويثنى عليه بالخير ويُدعى له حياً وميتاً، كما قال ابن الأعرابي:
لنا جلساءٌ ما نملُّ حديثَهم* ألِبّاءُ مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى * وعقلاً وتأديباً ورأياً مسدّدا
بلا فتنةٍ تُخشى ولا سوءُ عِشرةٍ * ولا نتّقي منهم لساناً ولا يدا
فإن قلتَ أمواتٌ فلست بكاذبٍ * وإن قلتَ أحياءٌ فلست مفنّدا.
وأخذ هذا المعنى شاعر آخر فقال:
فصرتُ في البيت مسروراً تحدّثني* عن علم ما غاب عنّي في الورى الكتبُ
فرداً تخبّرني الموتى وتنطق لي * فليس لي في أناسٍ غيرهم أرَبُ.
إن هؤلاء الجلساء هي العقول التي وضعت معارفها بين أيدي القراء، فهم أحياء بما قدموا من معارف للناس، كما قال الشاعر:
قد مات قومٌ وما ماتت مآثرُهم وعاش قومٌ وهم في الناس أمواتُ
وهذه المآثر العلمية هي التي يتفاخر بها الناس، فبقدر ما ينال المرء من هذه المآثر كان له الفَخار، فينزل منزلة لائقة بين الناس، وإن صحبها إيمانٌ وعمل كان عند الله تعالى بالمحل الرفيع، كما قال ربنا سبحانه: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾، ويقول بعض الأدباء:
العلم يُعلي بيوتاً لا أساس لها* والجهل يهدم بيت العز والشرفِ
ولا ينال العلم ولا تنال المعارف إلا بالتّعَلُّم، والقراءة هي المفتاح الأهم للتعلم، فإنها هي المتاحة لكل أحد، وهي التي يستطيع أن ينتقي منها الإنسان ما يفيد ويترك غير المفيد، وهي التي تتنوع حسب الكتاب والعصور والبيئات، والقارئ هو الذي يختار لنفسه ما يناسب ذوقه وعصره وبيئته.
وقد أولت شريعتنا الإسلامية الغراء القراءةَ اهتمامها الكبير، فكان أول التَّنزل القرآني هو الأمر بالقراءة، والإشادة بالقلم، وأنهما مفتاح المعارف والعلوم في كل زمان ومكان، ولذلك سميت هذه الأمة بأمة «اقرأ».
وقد كان سلف الأمة ممتثلين لهذا الأمر الإلهي؛ فقرؤوا كثيراً، ودونوا أكثر، ونفعوا أمتهم وغيرها، وإن حدث ضمورٌ في بعض العصور فإنه يكون مؤقتاً، وسرعان ما تنهض أمة «اقرأ» لتعود للقراءة النافعة والاستفادة الكاملة.
وها هي القيادة الرشيدة تشحذ الهمم للقراءة بفتح كبرى المكتبات، ونشر أهم المؤلفات، وتخصيص بعض الأوقات للقراءة حتى في ميادين العمل، فضلاً عن جعلها نمطاً حياتياً كشهرنا هذا شهر القراءة، ناهيك عن إنشاء كبرى المسابقات العربية، كمسابقة تحدي القراءة التي يشترك فيها الملايين بقراءة آلاف الكتب، فلا خيار لأحد بعد كل ذلك إلا بجعل القراءة أسلوب حياة لكل إنسان.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.