يوميات في العمل الخيري (3)
منح في جوف محن
تستقبل الجمعيات أصحاب الحاجة والفاقة، والحزن بادٍ على محياهم، وغبطتهم لغيرهم ظاهرة، فكانت هذه الوقفة لإسعادهم، وما هم فيه من حالة فقر لا يستدعي كل هذا الهم الذي يظن أنه الحرمان ولا سوى الحرمان.
خلق الله الناس فقراء وأغنياء، فلا الأول منقصة ولا الثاني منقبة، وإنما ذلك يعود إلى دين وخلق كل منهما.
ولكن أحب أن أبشر الفقراء بأن الله تعالى مدح الفقراء وأثنى عليهم، ليس لأنهم فقراء، فالفقر لا يُكسب منقبة أو مذمة لذاته، ولكن بحسب ما يؤول إليه حال من تلبس به، فالنبي الكريم استعاذ من الفقر، لأنه قد يؤدي إلى التسخّط والجزع وعدم الصبر، فيصير مذموماً في هذه الحالة، وفي المقابل فمن أعظم مناقب الفقر دوام تعلق الفقير بالله، وكفى بها وحدها شرفاً وفخراً، وزد على ذلك أن الفقراء يتقدمون الأغنياء في دخول الجنة، ولكن كيف السبيل لنيل هذه المنزلة العالية؟ لنعلم أن الفقراء على مراتب، فالأول هو الفقير الصابر المحتسب الأجر من الصبر على دواهي الدهر، وهنا درجة أعلى في الفقراء، وهو الذي حقق الرضا والشكر على فقره من الذي حقق الصبر فقط، وهما حالتان لا يمنعان من أن يسأل الفقير الناس ما يحتاجه من طعام أو شراب أو دواء.
ولكن هناك منزلة أعلى مما سبق، وهي منزلة الصابر الراضي المتعفف، فلا يسأل الناس، ولا يُظهر لهم حاجته وفقره، ويظن من يراه أنه غني عنده وعنده.... وهؤلاء هم من أثنى الله عليهم في القرآن: ﴿يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف﴾.
ولكنه في نفسه قد يتطلع إلى ما في أيدي الناس، وأن لو أعطوه دون أن يظهر ذلك لأحد.
وخذ مرتبة رابعة أعلى من جميع ما سبق، وهي منزلة المستغني، فهو متعفف بظاهره وباطنه، فلا يلتفت قلبه إلى عطاء من أحد، فضلاً عن أن يسأل الناس بلسانه، ففي الحديث «من يستعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله».
وهذا الثناء على الصنفين الأخيرين المقصود منه حثهم على المحافظة على هذه المنقبة، أو السعي إلى اكتسابها لمن كان فقيراً لحوحاً لجوجاً.
وأن صفة العفاف خير من السؤال.
ولما كان الفقر باقٍ، فالأحرى بالفقراء أن يختاروا الدرجة العالية منها، لأن الفقر لا يزول بتسخّط، ولا يرتفع بصبر، فالنتيجة واحدة.
ولكن النتيجة عند الله تعالى مختلفة بين تلك المراتب.
فلا تتنازل عن الصفتين الأخيرتين إذا كان مقابلهما مما يمكن الاستغناء عنها بمشقة محتملة.
لا تسقني ماء الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
فلا تتخلى عن هذه الخصلة الكريمة بدريهمات يسيرة تقطر بها ماء الوجه.
وكلما زهدت فيما عند الناس أحبوك، وكلما طلبت منهم وسألتهم انصرفوا عنك، ولو كانوا يملكون الدنيا كلها.
فالنفس البشرية مهما بلغت في الغنى يصيبها قلق من النقصان، وشح في النفس، إلا من رحم الله.
فإن كان ولابد من السؤال فليكن في أشد المواقف
[ازهد في الدنيا يحبك الله وازهد فيما عند الناس يحبك الناس، ولا حرج في طلب الغنى إلا إذا شغلك عن طاعة الله، واليد العليا خير من اليد السفلى].
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.