العشر الأواخر من رمضان

ما كدنا نستقبل شهر رمضان حتى هلت علينا العشر الأواخر من رمضان! وكأن الأيام العشرين طويت علينا كطي السِّجِل للكُتب، غير أننا نحمد الله تعالى أن من علينا بعودتها علينا ونحن في خير وعافية، ونشكره جل في علاه شكراً كثيراً على أن وفقنا فيها لطاعته من صيام وقيام وتلاوة قرآن وبر وعمل بر وإحسان، وتوفيقه سبحانه لنا بشكره يحتاج شكراً آخر، كما قال الوراق:

إذا كان شكري نعمةَ الله نعمة * عليَّ له في مثلها يجب الشكرُ

فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله * وإن طالت الأيامُ واتصل العمرُ

فنشكر الله تعالى أن بلغنا العشر التي كان نبينا عليه الصلاة والسلام يزداد شكره لله تعالى فيها ببالع الاجتهاد في العبادة والقيام، فقد كان صلى الله عليه وآله وسلم إذا دخلت العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد مئزره، فيحيي الليل كله قياماً وتلاوة وذكراً لله تعالى، ويوقظ أهله ليشمرن معه عن ساعد الجد في القيام والتلاوة والذكر، ويعتزل النساء في هذه الليالي المباركة؛ لأنها ليست ليالي رفث، ويقوم قياماً حتى تتفطر قدماه، وإذا عوتب في ذلك إشفاقاً عليه، يقول: «أفلا أكون عبدا شكورا؟!»، ليدل أمته على أن نعمة الله بالعفو والتوفيق للعبادة تستلزم مزيد الشكر له سبحانه وتعالى، وشكرُه جلَّ شأنُه كما يكون باللسان يكون كذلك بالجَنان والأركان، بل إن أجل الشكر أن يكون بالجنان والأركان؛ لأنه صرف نعمة الصحة إلى ما خلقت لأجله من الطاعة والعبادة، وإذا كان ذلك في هذه العشر فإنه يتضاعف فضله ويعظم أجره؛ لما فيها من رجاء إدراك ليلة القدر التي منَّ الله تعالى بها علينا معاشر المسلمين، وذلك ما كان يحثنا عليه المصطفى صلى الله عليه وسلم بفعله الذي هو أسوة لنا، فكان يجتهد ذلكم الاجتهاد الذي أخبرت عنه أم المؤمنين رضي الله عنها، وبقوله إذْ حث أمته على الاجتهاد فيها تحرياً لهذه الليلة المباركة، وقد امتثل الصحابة رضي الله عنهم ذلك، فإنهم لازموا رسول الله صلى الله عليه في مسجده، كما روى أبوسعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في العشر الأول من رمضان، قال: واعتكفنا معه، فأتاه جبريل، فقال: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأوسط، فاعتكفنا معه، فأتاه جبريل فقال: إن الذي تطلب أمامك، فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً صبيحة عشرين من رمضان فقال: «من كان اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم، فليرجع، فإني أُريتُ ليلة القدر، وإني نُسِّيتُها، وإنها في العشر الأواخر، في وتر، وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء»، قال أبوسعيد: وما نرى في السماء شيئا، فجاءت قَزَعة - يعني سحابة - فأمطرنا، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيتُ أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته تصديق رؤياه.

هكذا كان اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في هذه العشر، فإنه لم يقتصر على قيام الليل الذي كان يقومه في السنة كلها، بل خص هذه العشر باعتكاف أي لبث في المسجد، ينقطع فيه لمناجاة مولاه سبحانه، وترك حظوظ النفس ولذاتها، وتعب الحياة وأشغالها، لما هو أجل نفعاً وأكبر فائدة، إنه الانقطاع لله تعالى التماساً لليلة هي خير من ألف شهر، التي من وفق فيها لمرضاة ربه غفر له ما تقدم من ذنبه، وكانت عبادته فيها خير من العبادة في ألف شهر ليس فيها هذه الليلة المباركة.

اللهم وفقنا لها وتقبلنا فيها يا كريم.

«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»

لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه. 

الأكثر مشاركة