ما بين «ثريدين»
ليس هرباً من الواقع، ولا نوستالجيا حين أقول إنّني أفتقد بشدّة عادات رمضان القديمة وطقوسه، ولست من اللّواتي يجمّلن الماضي بمصاعبه ومتاعبه، على حساب الحاضر بما وصل إليه من تكنولوجيا سهّلت علينا الكثير من أمور الحياة، ولكن للواقع كلمته.
أشعر بأنّني عشت رمضانات متعدّدة، لكلٍّ منها طقوسها وعاداتها، وتشترك في نقطة واحدة، أن جميعها لا يشبه ما نعيشه الآن، فرمضان الطفولة في بيتنا القديم ذي السلالم في «المنامة»، كانت له نكهته التي لا تخطئها العين بالاحتفاء باللبس الرمضاني، ولا الأذن بأصوات القرآن المنبعثة من المآذن، ولا الأنف بروائح الصّواني المنتقلة من بيت إلى بيت، وعلى رأسها الهريسة والثريد.
أذكر إلى الآن أول يوم صمته وأنا في التاسعة من عمري، حين عدت من المدرسة ظمآنة، واتّجهت مباشرة إلى الثلاجة لأجد أمي سدّاً منيعاً يحول بيننا، قائلة لي بحنوّ الأم وحنكتها: لم تبق إلا سويعات قليلة، تعالي ساعديني في توزيع الأكل ونقرأ بعدها قليلاً من القرآن، وكانت وصفة ناجحة تغلّبت بها على ما تبقى حتى وقت الإفطار. كما مازلت أحتفظ في رأسي منذ طفولتي بصوت والدي وهو يصلي ويقرأ القرآن ببطء، لم تفلح السّنوات في محوه.
أما رمضان فترة الشباب فكان للتلفزيون - متابَعةً في البيت أو تقديماً للبرامج - النصيب الأكبر، إذ ارتبط عندي هذا الشهر الكريم بصوت ياسمين الخيام، وهي تنشد «محمد يا رسول الله»، وبالدروس الظريفة للشيخ الأديب علي الطنطاوي، وهو يجيب بخفّة دم على قضايا دينية جادّة. وحتى الدراما كانت لها نكهتها: مسلسل واحد لا ننشغل عنه بعشرات المسلسلات في مئات القنوات كحالنا اليوم، تفتح قبله شهيّتَنا على المتابعة فوازير رمضان لنيللي أو معشوقة شبابنا شريهان. وحين دخلت الجامعة أصبح شهر الرحمة مقسّماً عندي بين الدروس والأنشطة الثقافية، وتقديم برنامج مسابقات يومي يسمى «فكّر واربح» مع زميل لي في تلفزيون البحرين على المسرح الوطني القديم، وكان من قبل يسمّى سينما الأندلس.
مازلت إلى الآن أقتطع من رمضان أياماً أقضيها مع الأهل في البحرين؛ فهذا الشهر بالنسبة لي هو «الجَمْعَة» على مائدة رمضانية وطقوس كم أفتقدها الآن! وأصبحتُ لا أراها إلا في مدينة كالقاهرة، بصخبها وفوانيسها و«شباكيتها» واحتفائها المبهج برمضان، لذلك هي الأخرى أخصها بزيارة سنوية إلا ما ندر، أستعيد معها مظاهر قتلتها الخيم الرمضانية ودخان الأراجيل ووسائل التواصل التي صنعت لنا عالماً افتراضياً موازياً.
بين «ثريد» رمضان، و«ثريد thread» «تويتر» وأخواته أنحاز بشدة للأول.
• حتى الدراما كانت لها نكهتها: مسلسل واحد لا ننشغل عنه بالعشرات كحالنا اليوم، تفتح قبله شهيّتَنا على المتابعة، فوازير رمضان لنيللي، أو معشوقة شبابنا شريهان.
@DrParweenHabib1
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.