الفقه الجديد
خاض الناس كثيراً في الأسبوعين الماضيين في موضوع دعوة بعض الوعاظ الفضلاء لاستحداث مذهب فقهي جديد، يتماشى مع العصر الحاضر، نظراً لأن الفقه صناعة بشرية قابلة للمراجعة كما قال، وقد استشعر أنه سيجابه باعتراضات وردود، إلا أنه تسلّى بأن الاعتراض شأن البشر، وأن القرآن الكريم ما سلم من المعارضة!
وتطميناً للشيخ الفاضل، وللجمهور المتفاعل أحب أن أبين أن الاستحداث المنشود غير مبرر لأمور كثيرة، أهمها ما يلي:
1- أن الفقه يتضمن الفقه الأكبر وهو فقه التوحيد وما يشتمل عليه من مسائل الإيمان والعقائد، وهذا مما لا مجال للخوض فيه؛ لأنه مؤصل على يقينيات لا تحتاج بحثاً جديداً، فقد نضج واحترق كما يقول الفقهاء، وما كان فيه من خلافات فرعية فإنها لا تُحل باستحداث مذهب ولا إلغاء ما قد وجد.
2- يتضمن الفقه أبواب العبادات كلها وهي كما يعلم الجميع توقيفية لا مجال للاجتهاد في أصولها، وإن كان هناك فسحة للاجتهاد في بعض فرعياتها عند من يرى ذلك، وهذ الفقه يعد ربع أبواب الفقه.
3- ويتضمن كذلك فقه الأسرة من نكاح وتوابعه ومواريث ووصايا وهو كذلك يعد ربع الفقه، وأغلبها نصية لا تقبل الاجتهاد، وقد تقرر فقهاً أنه لا اجتهاد في مورد النص.
4- يتضمن أحكام القضاء والسياسة الشرعية وما يتبع ذلك، وكل هذه الأبواب الفقهية قد تناولها الفقه المدون من أكثر من ألف سنة تناولاً دقيقاً مفصلاً.
فلم يبقَ معنا إلا أبواب المسائل المعاصرة في المعاملات المادية والطبية والاجتماعية والبيئة والسلم والحرب... وهذه الأبواب نبشر فضيلته والمتفاعلين الكرام أنها محل اهتمام فقهائنا المعاصرين من نحو نصف قرن أو أكثر، فتبحث بحثاً فقهياً مؤصلاً في المجامع الفقهية الدولية أو القُطرية، أو المؤتمرات والندوات المتخصصة في كل بلاد الإسلام، وعلى رأسها مجمع الفقه الإسلامي الدولي ومجمع البحوث في الأزهر الشريف والمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، والمجلس الشرعي لهيئة المراجعة والمحاسبة فيما يخص الاقتصاد الإسلامي، وغيرها من المؤسسات العلمية المختلفة في كثير من البلاد الإسلامية والأوروبية والأميركية أيضاً، وقد أنتج العلماء من الفقه لهذه الأبواب ما يشفي العليل ويروي الغليل، ببحوث معاصرة ومعرفة تامة بمقتضيات العصر وما يناسبه من البيان الشرعي لأحكام الله تعالى التي تعبد بها عباده، ومازالت هذه المجامع والمؤسسات تنضح بكل جديد لكل ما يستجد من القضايا المعاصرة، وذلك ما بشر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «يحمل هذا العلم من كل خلَف عدولُه، يَنفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». وفقهاؤنا المعاصرون يمثلون الاجتهاد الجماعي الذي دعا إليه الإسلام فيما يستجد من الأمور، وهذا الاجتهاد المؤصل والمنقَّح لا يكاد يخطئ الحق الذي تنشده شريعتنا الغراء، وبذلك تكون الدعوة لاستحداث مذهب فقهي جديد تُخطئ الواقع؛ لأنها إن كانت لاجتهاد جماعي فهي تحصيل حاصل، وإن كانت دعوة لفرد كما كانت للأئمة السابقين فهي دعوة عريضة، لا يسلِّم لها من شمت أنفُه رائحةَ الفقه، ممن خبر بحثه، وجد في طلبه، وعني بأصوله وفروعه، ومسائل خلافه، وطرق الاستدلال لمسائله.
والحقيقة أنه لا يوجد المتأهل لهذه المهمة كتأهل السابقين ولا أقرب من ذلك، اللهم إلا أن تكون أماني، وكما قال زهير: «إن الأماني والأحلام تضليلُ».
فينبغي إذاً أن تكون الدعوة لاستنهاض الهمم لدراسة الفقه والتبحر فيه حتى يقوم أبناء العصر بواجبهم نحو إحيائه كما أمر الله تعالى بقوله: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}.
اللهم فقهنا في الدين وعلمنا التأويل.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.