من ذكريات الصبا في الإسكندرية
مثل والديّ الشاعر الإنجليزي ستيفن سبندر الذي قال عنهما «My parents kept me from «children who were rough، أبعدني والداي عن الأولاد الأشقياء. منعاني من أن ألعب معهم في الشارع، أو أركب الدرّاجات، أو أن أسبح، أو أن أذهب إلى السينما، أو أن أتحدث مع الفتيات حتى لو كنّ قريباتي. وحتى أصبحت طالباً في جامعة الإسكندرية، لم يكن لدى عائلتي جهاز تلفاز، ولا أتذكر أن والديّ اصطحباني يوماً إلى السينما. لكنني كنت أتسلل خارج المنزل أيام الجمعة وأذهب سراً إلى سينما «الهمبرا» في منطقة الرمل بالإسكندرية. كانت «الهمبرا» دار سينما «ترسو» متهدمة، سيئة التهوية، تقدم عروضاً مستمرة مزدوجة (فيلماً أجنبياً يعقبه آخر عربي). لا يهم في أي ساعة ندخل السينما لأنها كانت تعرض الأفلام نفسها طوال ساعات النهار والليل؛ فإذا دخلت وقد فاتك نصف الفيلم يمكنك أن تنتظر لإعادة عرضه وبتذكرة الدخول
نفسها. وكان المشاهدون يدخلون ويخرجون طول الوقت، يحملون أكياساً ورقية تحوي سندويتشات الفول والكبدة الإسكندراني، يقزقزون «اللب» ويقشّرون الفول السوداني ويرتشفون الشاي بصوت مزعج. كانت الأفلام الأجنبية عادةً أفلام رعاة البقر لممثلين أميركيين مثل جاري كوبر وبيرت لانكستر وكلينت إيستوود، وكان من المعتاد أن يسألك من بجوارك عما قاله جاري ولماذا غضب بيرت وما تفوه به كلينت وهو «يدلدل» عود الكبريت من زاوية فمه (كعادته كان قليل الكلام).
أمّا عن تعليمي في مصر والمعلمين الذين درّسوني، فلي ذكريات عدة. طبعاً هناك من ترك أثراً جميلاً فيّ مثل أبلة نازك معلمتي في أول سنة ابتدائي، والأستاذ محمد خليفة الذي حبّبني في دراسة اللغة الإنجليزية، والأستاذ عبدالعظيم أستاذ اللغة العربية والأدب ذي النظارات السميكة والذي كنا ننطق اسمه هكذا: «أستاذ عباعظيم».
ولكن الذي أذكره جيداً حتى الآن، هو مدرس الرياضيات في المدرسة الإعدادية. كان غريب الأطوار كما لو كان في مهمة لتأكيد صحة الصورة النمطية عن معلمي الرياضيات. كانت لديه عادة غريبة تتمثل في جعل حرف السين لاحقة تضاف لأواخر بعض الكلمات، على سبيل المثال كان يقول:
«يا أولاد-س حِلّوا التمرين رقم خمسا-س»
«انتبه يا ولد-س أنت وهو بقى-اس»
«يا أحمد-س، قول لي إيه هو الجذر التربيعي للعدد 144-س؟».
ذات يوم أصابته نوبة سيئة من هذا الكلام الغريب مما أدخلني في نوبة من الضحك وجعله هذا غاضباً جداً، وجاء إلى التختة حيث كنت أجلس وأمرني بالوقوف وفتح يدي لضربها بعصا طويلة. لم يستطع حتى أن يضربني بشكل سليم وهوى بالعصا وبكل قوته على كفي ولكنه أخطأ الهدف وضرب التختة وكسر سطحها الخشبي وضحكت، مما جعله يغضب أكثر واقترب جداً من وجهي ليهددني بعقاب أشد وبكلمات كلها تنتهي بحرف السين، وينطق اسمي «كمال-س» ولاحظت حينها أن جانباً من شاربه كان أقصر من الجانب الآخر وهذا جعلني أضحك أكثر وجعله هذا بدوره أكثر جنوناً وغضباً.. بعد فترة، أخذ إجازة لمدة أسبوع وسمعنا أنه تزوج خلال تلك الإجازة وعندما عاد وقفنا في صفوف متراصة لتهنئته بأغنية زفاف مصرية: (وعريسنا طالع م الحمام...)، الغريب أنه كان يبتسم فرحاً بهذا التهريج وشكرنا بحرارة بجمل وكلمات خلت تماماً من أي سين ضرورية كانت أو غير ضرورية.. وبدا كأنه لم يعد بحاجة إلى أن يجعل حرف السين لاحقة تضاف لأواخر الكلمات.
ولله في خلقه شؤون وتدابير.
باحث زائر في جامعة هارفارد
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.