القراءة بوّابة المعرفة
التحدي يعني أن يدخل المرء في مغالبة بدنية أو ذهنية، أو هما معاً، ويكون الداخل في خطر المغالبة بين الفوز والخسارة، وتحديات الحياة كثيرة ومرهقة.
غير أن تحدي القراءة ليس كسائر التحديات التي يكون فيها المتحدي بين الفوز والخسران، بل إنه فوز دائم، وربح عاجل، ذلك أن القراءة هي التي تفتح آفاق الدنيا والآخرة، فلا يمكن لأحد أن يكون ذا بالٍ في مجتمعه، إن لم يكن قد تسلّح بالقراءة المعرفية التي تميزه، ولا يمكن أن يميِّز الخير من الشر إن لم يكن قد تزود بالقراءة المفيدة، ولا يمكن أن يعرف مصالحه الشخصية الآنيّة والمستقبلية إن لم يكن قارئاً فَهِماً نَهِماً.. إلى غير ذلك من الفوائد العالية التي تكتسب من القراءة.
ونحن أمةَ الإسلام نتميز بأن القراءة لها عناية فائقة في شريعتنا، ولذلك كانت أول قَطرة من غيث السماء على رسول الإسلام سيدنا محمد، عليه الصلاة والسلام، فكانت أمراً بالقراءة، وإشادة بالعلم الذي هو وليد القراءة، وإرشاداً إلى وسائل القراءة من القلم وغيره، حتى تعلم هذه الأمة أنها معنية بالقراءة كعنايتها بالشريعة.
وهذا ما عرفته أمّتُنا الإسلامية من تالِد عصرها، فكانت القراءة مصاحبةً للنشأة الأولى لكل مولود في المجتمعات، فما أن تكتمل سن الرضاعة حتى يرتضع المولود القراءة والعلم، فيكون ذلك غذاءه الروحي، كما يكون الطعام والشراب غذاءه الجسدي، ولما قصَّرت الدول المتعاقبة عن واجب التعليم لم يَسترْوحِ الناسُ بذلك، بل بادر كلٌّ بمجهوده لتعليم عياله القراءة والكتابة والعلم بما يقدر عليه، فأقاموا الكتاتيب في كل حاضرة وبادية، لتلقين الناشئة مبادئ القراءة والكتابة، حتى يمهروا فيهما، ثم ينطلقون بعد ذلك للنَّهَل من العلم والمعرفة في مجالس العلم المحلية والرحلة إلى أهل العلم في البلدان المترامية الأطراف، فنشأت حضارةٌ علمية فائقة في كل عصر من عصور الإسلام، وكلِّ قطر من أقطاره، وغدت الحضارة الإسلامية منافسة للحضارات القديمة كحضارة الإغريق والرومان وغيرهما من الحضارات المعاصرة لها - إن لم تفق عليها- بل إن كثيراً من المعارف الكونية لم تنشأ إلا من معين الحضارة الإسلامية، كما لا يخفى على المثقفين.
ولعل القراءةَ في هذا العصر هي هَمُّ كل إنسان؛ لمقتضيات عصرنا الحضاري حضارة صناعية وتكنولوجية، إلا أننا لم نجد من يحرك جذوة الجماهير العربية لهذا الهدف الراقي، كما حركه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، حفظه الله ورعاه، هذا الرجل الذي حمل همّ الأمة العربية، كما يحمل هم شعبه، محاولاً إسعادها في كل شيء، فقدم مبادراتٍ عظيمةً مباركة، كان منها مبادرة «تحدي القراءة» التي دخلت هذا العام عامها التاسع.
هذه المبادرة التي يقصد بها سموه «رفع الوعي بأهمية اللغة العربية، وإعادة إحياء عادة القراءة لدى الطلبة العرب، وتكريسها لتكون أسلوبَ حياةٍ، وخلق أجيال مثقفة، وترسيخ لغتنا العربية في نفوس الأجيال الشابة، وربطهم مع ثقافتهم وجذورهم وحضارتهم العربية»، ذلك أن القراءة، كما قال سموه، هي بداية الطريق لمستقبل أفضل قائم على العلم والمعرفة.
وها هو التحدي في هذا العام يكتسب زخَماً كبيراً فائقاً عن سنواته الماضية بزيادة 11% على الدورة الماضية، حيث وصلت المشاركات إلى 24.8 مليون طالب وطالبة، من 46 دولة، يمثلون أكثر من 188 ألف مدرسة، وبإشراف نحو 150 ألف مشرف ومشرفة، كما صرحت بذلك الجهة المنظمة الموفقة، بقيادة معالي الأستاذ محمد القرقاوي، وفقه الله، وستسمر، إن شاء الله تعالى، بزخم غير متناه، لتحقق آمال الشعوب العربية في المعرفة التي تنقلها إلى الابتكار.
جزى الله صانع المجد وقاهر المستحيل الشيخ محمد بن راشد خير الجزاء.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.