«ثم استقم»
تُعرَّف الاستقامة بأنها لزوم طاعة الله تعالى امتثالاً لأمره، واجتناباً لنهيه، ومسارعةً لمرضاته؛ فأمرها عظيم، وثوابها أعظم وأكبر، وحقيقتها الخروج عن المعهودات، ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي اللَّه تعالى على حقيقة الصدق، كما يقول العارفون، وقد قال صلَّى اللَّه عليه وسلم: «استقيموا ولن تحصوا»، أي لن تصلوا إلى منتهاها، ولن تتحققوا بكمالها، فلا يطيق كمالها إلا الأكابر؛ غير أنه لا عذر لأحد بتركها، تعللاً بعدم القدرة على كمالها، بل لابد من الجِد في طلبها، فإن الله تعالى أمر بها نبيه عليه الصلاة والسلام، وعباده المؤمنين على حد سواء، فقال سبحانه: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾، وما ذلك إلا رحمة من الله تعالى لعباده حتى ينالوا ما رَتّب عليها من المنازل العالية التي أخبر عنها بقوله سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ﴾، أي لا تخافوا مما ستقدمون عليه، فأنتم قادمون على رب كريم، يكرم النَّزيل، ويثيب الجزيل، ولا تحزنوا على ما فارقتم من أهل وولد، فالله كالؤهم وراعيهم إكراماً لكم، كلُّ ذلك كان تبشيراً من الملائكة الكرام الموكلين بما يأمرهم ربهم سبحانه وتعالى، وفي آية أخرى يقول ربنا سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، فهي بشارة من الله تعالى بغير واسطة، فيا له من مقام كريم، عند الرب الرحيم سبحانه وتعالى!
ولما كان العباد لا توقظهم إلا زواجر الأوامر، وقوارع النواهي؛ كانت الأوامر الإلهية بالاستقامة مباشرة، كقوله جل شأنه: ﴿فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ﴾، وقوله سبحانه مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام وأمته مِن بعده: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، فأشركهم بالخطاب لعِظم أمر الاستقامة عند الله تعالى.
والأمر للوجوب، وهو يعني الثبات على الطاعة، والبعد عن المعصية، لا أن يروغ العبد روَغَان الثعالب، كما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان لزاماً على كل مؤمن ومؤمنة أن يسعى للاستقامة جهده، ليمتثل أمر الله تعالى، وأمر نبيه عليه الصلاة والسلام، فقد قال لمن سأله أن يقول له قولاً في الإسلام لا يسأل عنه أحداً بعده، قال له: «قل: آمنت بالله، ثم استقم»، أي اثبت على الإيمان والطاعة ما استطعت، فذلك هو حبل النجاة، وهو سبب الفوز بنعيم الله الدائم في الدنيا والآخرة.
فما أحوجنا لهذه الاستقامة التي هي الكرامة الحقيقة للعبد؛ إذْ يتشرف بها في مقامات العبودية لله رب العالمين.
ولما كانت ثقيلةً على العباد؛ فإن الرؤوف الرحيم عليه الصلاة والسلام قد أرشدنا إلى السير في سبيل الاستقامة بقدر المستطاع، فقال «استقيموا ولن تحصوا، واعملوا، وخير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن»، أي لن تبلغوا نهايتها، ولكن لا عذر لكم منها بقدر ما تطيقون.
وأهم معالم الاستقامة؛ الصلاة التي من حافظ عليها كانت له صِلة بربه، فتهديه للخير وتنهاه عن الشر، ولكن ليس كل صلاة يكون لها ذلكم الأثر، بل لا يكون ذلك إلا لصلاة الخاشعين الذين يستشعرون عظمة الله تعالى في صلاتهم، فيترقَّون فيها في مقام العبودية، فيقسمها الحق بينه وبين عبده المؤمن، كما ثبت في الصحيح.
إن الاستقامة على شرع الله تعالى ونهجه القويم هي مطلب كل مؤمن ومؤمنة، فهم يطلبونها في كل صلاة حينما ينادون ربهم قائلين: ﴿اهدنا الصراط المستقيم﴾، فما لهذا العبد المؤمن إذا خرج من صلاته نسي ما كان يدعو به، فيقع في المحظور، ويترك المأمور؟!
اللهم ارزقنا الاستقامة وحقق الأمنية.
الاستقامة على شرع الله تعالى ونهجه القويم هي مطلب كل مؤمن ومؤمنة، فهم يطلبونها في كل صلاة.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.