الاقتصاد الإسلامي واللغط المتجدد
لم تكن شريعتنا الإسلامية الغراء بمعزل عن واقع الناس وحاجاتهم المتجددة؛ بل إنها تواكب كل جديد من القضايا التي لا تتوقف، وكما يقول علماء الأصول: «لا حادثة إلا ولله فيها حكم، اشتمل القرآن على بيانه، لقوله تعالى: {ما فرَّطنا في الكتاب من شيء}». ويقول الشافعي، رحمه الله: «فليست تنزل في أحد من أهل دين الله نازلةٌ إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهُدى فيها».
ومن أهم قضايا العصر قضايا المال الذي أولته الشريعة الغراء اهتماماً عظيماً، فكان أحد مقاصدها الخمسة الضرورية، من حيث الكسب والإنفاق، فلما فرض زماننا تنوع طرائق كسبه من خلال المعاملات البنكية التي فرضت نفسها في العالم كله، كانت الشريعة حاضرة في ضبط كسبه كحضورها في إنفاقه، وذلك من خلال المصرفية الإسلامية التي تُعد مفخرة علماء المسلمين في القرن العشرين، فقد قيَّض الله تعالى لها خلفاء نبيه عليه الصلاة والسلام الذين قاموا بسَبْر المعاملات البنكية القائمة، التي هي صناعة غير إسلامية؛ فرأوا أنه يمكن إصلاحها بما هو خير وأنفع للعباد والبلاد، فقاموا بواجب الوقت لينفوا عنها الربا والرِّيبة، فقامت بفضل جهودهم وحرصهم على أمتهم بنوك ومصارف وشركات ومؤسسات إسلامية متعددة في كل بلاد الله المتسعة الأرجاء، فأوجدت بدائلَ عن المنتجات القائمة على الربا والاستغلال الجشِع، منتجاتٍ تتفق مع الشريعة الإسلامية حقيقة ومعنى، وأوفت بالغرض الإسلامي في وجوب التعامل الصحيح المباح، وترك ما حرمه الله تعالى على عباده في كسب المال وإنفاقه، لما فيه مصلحتهم، وما يحقق العدالة بينهم.
هذا هو حال الاقتصاد الإسلامي الذي تنشده البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية، ومازال الطريق طويلاً لإيجاد كل جديد مفيد بما يتفق مع الشريعة الإسلامية الغراء.
ومع ذلك نسمع ونرى بين الحين والآخر من يشكك في هذا الاقتصاد الكبير الذي أصبح يمخر في الآفاق، ويحقق النماء والاستقرار، ويحمي المال من الضياع والإفلاس، بما يوحي بأن الشريعة غير مواكبة لحياة الناس في كل زمان ومكان!
ولا يخفى بطلان هذا الإيحاء، فإن النصوص تمنعه، والواقع ينقضه، وما يثار من شبهة حقيقة النقود الورقية التي لم تعد من معدني الذهب والفضة؛ فإنها شبهة واهية لا تؤثر على أصل الحكم في الثَّمنية والنقدية، فإن الشارع لما اعتبر الذهب والفضة نقداً؛ لم ينف غيرهما إذا اصطلح الناس عليه، كما قال الإمام مالك، رحمه الله تعالى: «ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود – أي تعاملوا بها - حتى تكون لها سِكة وعين لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظِرة»، أي نسيئة؛ لأنها تصبح نقداً مثل الذهب والفضة الذي يجب عند تبادله التقابض، ولا يجوز فيه النَّساء، فهذا نص جلي من الصدر الأول نظر إلى تحقيق المناط في النقدية، والمقصد الشرعي من النقد الذي يكون به قِيم الأشياء، ويجري به التبادل، وينال الاعتماد، وله حمايةٌ نظامية، ولو لم يقل العلماء بمثل هذا لفسدت النقدية في العالم، ولسقطت أحكام شرعية كثيرة متعلقة بالمال من زكاة وصدقات وغيرها، فضلاً عن ذهاب محل الربا في النقدين، وكل ذلك مما لا يقبل ولا يعقل.
إن التمسك بحصر النقدية في الذهب والفضة من أجل إسقاط حكم الربا الذي هو محاربة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، يُعد جموداً على النص، وذلك ما ينعاه الفقهاء على أهل الظاهر، ويحذرون منه، فلم يكن هذا القول محل اعتبار عند علماء العصر منذ أن نشأت البنوك، ففتاواهم ملأت الصحف، وكتبهم عجَّت بها الرفوف في بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالعملات الورقية كتعلقها بالنقدين، فضلاً عن القرارات المجمعية التي تمثل الاجتهاد الجماعي للأمة، ولا تعدو الصواب بحمد الله تعالى.
مازال الطريق طويلاً لإيجاد كل جديد مفيد بما يتفق مع الشريعة الإسلامية الغراء.
«كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء في دبي»
لقراءة مقالات سابقة للكاتب، يرجى النقر على اسمه.